Friday, 21 October 2011

عن جغرافيا بديلة - إبراهيم فرغلي



القصيدة تخلد بالقصيدة
إبراهيم فرغلي
النهار اللبنانية
إبراهيم فرغلي
الاربعاء 2 آب 2006


"الذاكرة المهددة بالفناء تعيش أكثر": أتصور أن في إمكان هذه الجملة الشعرية أن تلخص جوهر ديوان "جغرافيا بديلة" للشاعرة المصرية إيمان مرسال الصادر أخيرا عن "دار شرقيات"، والذي أنهت بصدوره فترة من الصمت، أو بالأحرى التوقف عن النشر، دامت نحواً من تسعة أعوام منذ ديوانها "المشي أطول وقت ممكن".


"لماذا جاءت إلى البلاد الجديدة؟ هذه المومياء؛ موضوع الفرجة/ ترقد بزينتها في كتان رمادي: حياة متخيلة في فترينة متحف/ أظن أن التحنيط مسألة ضد الخلود/ لأن الجسد لن يكون أبدا جزءا من وردة/ المومياء لم تختر هجرتها بينما هؤلاء الذين انتظروا طويلا في طوابير السفارات/ وبنوا بيوتا في بلاد أخرى/ يحلمون بالعودة عندما يصبحون جثثا".
بهذه الصورة الشعرية المفارقة تطرح إيمان مرسال سؤالا عن معنى الغربة، وهو سؤال جوهري في هذا الديوان حيث تبدو الشاعرة كأنها معلقة في فراغ بين محاولتين لكتابة الذاكرة؛ الأولى تعيد كتابة ذاكرة المكان القديم، أو الوطن، والثانية تكتب ذاكرة المكان الجديد. وفي الحالين تعبّر عن حالة إنسانية لغريب في المكانين، بلا بكاء على أطلال، أو افتعال صراع مع الموقع الجديد. غريب يبحث ببساطة عن المكان الأكثر إنسانية، وهذا ما تعبّر عنه بصور عديدة على امتداد نصوص الديوان وبينها هذه الصورة: "بالمناسبة، كيف تخرج من سلطة جسد ميت/ كيف تكسر إدمان البروزاك أوعدم احتياج السيكولوجيست إليك/ لم يكن مناسبا أن تسأله، وانتبهت وهو يقول/ "هذه بلاد بلا تاريخ"/ كأن التاريخ مشروط بالآثار".
الذاكرة الماضوية حين تقوم الشاعرة بإعادة كتابتها تخلصها من الشوائب العاطفية والآلام التي كانت تشوش الذاكرة وتحررها إلى آفاق أوسع، بوعي أكبر تستمده من موقعها الجديد، وبفنية تستقي عناصرها من أصالة صوت الشاعرة، ومن التقنيات التي يستلزمها هذا الوعي الجديد على مستويي تخليق الصورة الشعرية وتقشف اللغة.
تتأمل خبرات الصداقة والزمالة والعمل والآمال، وأيضا العاطفة التي تظهر لها أطياف عدة، تتكرر مع عاشق قديم، وتومض في النص بأكثر من طريقة، كأنها استجابة الشاعرة لومض الذاكرة اللحوح، أو تعود إلى صور لبيت العائلة القديم بعدما تعرض للهدم كأنها تعيد بناءه، مرتبطا بصورة الأم التي تبدو مركزا أساسيا في تلك الصورة: "جدار سيهدم بعد دقائق ليصير كومة من تراب/ كأن أحدا لم يسند أبدا ظهره إليه/ هل تحممت أمي قبل النوم أم في الفجر؟/ أية علاقة تجمعنا الآن؟/ أعطيت فساتينها صدقة لأنها لا تناسبني/ ولو تقابلنا الآن فسأبدو مثل أخت كبرى/ أية علاقة ورحمها كان قد دفن معها هناك/ تحت شجرة كافور حيث الموت المبكر قريب من اليد".
ثمة مستوى ثالث للذاكرة في هذا الديوان يتعلق بالذاكرة الشعرية نفسها حيث تبدو مرسال في هذا الديوان أكثر تسامحا مع التقنيات، ومع قاموسها اللغوي، إذ أفسحت لبعض مرادفات اللوعة والميوعة العاطفية أن تتسلل إلى هذا النص مثل "غرام" أو "وصال" أو "ضنا". لكنها تجعل منها في الوقت نفسه موضوعا للسخرية من التشدد القديم حيال السنتمانتالية وفكرة الملهمات بشكل عام، أو تراث استمساك الشاعر العربي بالملهمات.
لا يعني ذلك أن مرسال تراجع مسيرتها الشعرية، إنما العكس، إذ تبدو أكثر نضجا وثقة، وقدرة على تجريب الشعرية بالصورة، أو المفارقة، أو إدخال السرد كتقنية في أكثر من موضع في الديوان، وهذا يبلغ ذروته في قصيدة "حتى لا يتلوث أحد بدماء الواقع". كما أنها تحرر عدسة العين التي كانت تركز على الذات، روحا وجسدا، كسمة أساسية من سمات القصيدة الحديثة والتي كتبتها هي بامتياز في "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" و"المشي أطول وقت ممكن"، وكذلك في ديوانها الأول "اتصافات". فالعدسة الشعرية هنا توسع من نطاق اهتمامها إلى الآخر الذي تجسده نماذج عدة مرسومة من واقع الأفراد والحياة اليومية في الغرب في وصفه المكان الجديد ومحل الأسئلة اللانهائية عن تنافر الشرق والغرب، أو في نماذج من أطياف الشخصيات التي جسدت جزءا من خبراتها في المكان القديم، وتصل إلى حد رسم رؤى لها طابع جماعي أو كوني كما في نص "الدولة".
ثمة متغير آخر هو تطعيم النصوص بمرادفات بالإنكليزية لتعبّر عن موقعها الجديد في مكان تعيش فيه بلغة أخرى، وتضطر لأن تحلم بهذه اللغة (وهذه علامة كانت تنتظرها لتعرف تمكنها من اللغة كما قال لها مهاجر عجوز ذات يوم) لأن ابنيها لا يتحدثان إلا بهذه اللغة، وهذا ما تعبر عنه في قصيدة تحمل اسم الابن مراد الذي يأتي خطابه في القصيدة بالإنكليزية، بينما الأم تردّ باللغة العربية. القصيدة نفسها تحمل مفارقة أخرى تكشف المسافة بين وعي الطفل بالموت وفقا للإجابات الجاهزة المتفق عليها جماعيا، وبين وعي الماركسية القديمة التي لا يقلقها الفناء قدر ما يربكها سؤال عن مآل الصوت، كما تعبّر عن ذلك في قصيدة "قراءة الماضي" حيث تقول: "الروح تصعد إلى السماء/ ويقال إن الجسد فان/ أين يذهب الصوت إذاً؟/ الصوت الذي كان يضيء كلؤلؤة في عتمة/ الصوت المهيمن على حاسة البصر/ الصوت المحيّر، سراب الكافر/ ثقة المؤمن في الجنة/ جناحان مفرودان في اتجاه الجحيم/ لم أراهن أبدا على الروح/ ولست في حرب مع الفناء/ أين يذهب الصوت؟".
مثل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الفنية والفلسفية التي تعتبر سمة أخرى لهذه النصوص مما تطرحه إيمان مرسال في ديوانها هذا، تصنع علامة فارقة في مسيرة نصها الشعري وتؤكد أصالة صوتها الخاص بين مجايليها، وتنفي ما يشيع عن أن قصيدة النثر هي قصيدة واحدة يكتبها شعراء عدة. الصوت الأصيل ينفي كل تلك الثرثرات، وهذا ما فعلته مرسال باقتدار.