مصنع الخرائط
قراءة في ديوان جغرافيا بديلة لإيمان مرسال
May Telmissany |
(أكتوبر 2006) - إيلاف
"إن أفضل الطرق للتخلص من الغواية هي الرضوخ لها." هكذا يقول أوسكار وايلد وهو يقصد في المقام الأول غواية العشق التي لم تزل تطارد العاشق حتى تخضعه، فإذا به وقد انساق وراءها قد تحرر منها إلى الأبد. بين حدي الغواية، بدءاً من وجودها كفكرة تداعب الخيال وحتى تحققها ثم نهايتها المحتومة، تقع قصائد إيمان مرسال في الديوان الأخير "جغرافيا بديلة" (شرقيات، القاهرة). غواية البدائل التي تفضي إلى الوعى بالتشابهات، غواية الرحلة التي لا تلبث أن تنقلب إلى كابوس: شبكة من العلاقات الممكنة واحتمالات الخلاص تنسجها القصائد بين الشاعرة والعالم كالجسر الذي لا وجود للشاطئين إلا بوجوده. شبكة هشة لا تكاد خطوطها تتضح حتى يصيبها الوهن، مثل بيت العائلة الذي يتهدم ولا تخرج من شقوق جدرانه سوى خصلات من شعر الأم، مبتلة ً بالحنين وذكريات الطفولة. تغزل الشاعرة نسيج الغواية بدأب لا لتحافظ على النسيج بعد اكتماله وإنما لتختبر قدرتها على الغزل وقدرتها أيضاً على النسل. غواية الغرب موضوع يطرح نفسه بقوة ًعلى سطح الديوان لكل من يقرأ ويفسر النصوص من منظور اجتماعي أو سياسي، حيث يبدو ذلك الغرب البعيد الملتبس موضع اتهام جاهز يشمل الآخر بعين التحفز، ويدعو بالضرورة لسلسلة من مشاعر الرفض والتهكم لا يخلو منها الديوان. ولكن إذا أراد القارئ أن يخطو نحو العمق درجة أخرى، سيدرك ربما أن هدف الشاعرة ليس تحديداً مناوشة مشاعر الرفض الساذجة تجاه الغرب ككل ٍ متحقق وجامد، بل هدفها في المقام الأول العبور من جسر لآخر، من هنا لهناك وبالعكس، لا للاستقرار على شاطئ بعينه وإنما لاختبار مدى صلابة الجسور في مواجهة القلق الوجودي من هواجس الموت وأشباح الفشل. ههنا، تتخذ الغربة/الهجرة شكلاً أكثر فاعلية كتجربة عبور مستمر، لا ثبات فيها ولا سكينة، ولا محل فيها لحسابات المكسب والخسارة، فالأشجار الخضراء يغطيها الجليد والأنهار تتجمد من الوحدة والأورجانيك فوود لا يلغي الاحتياج للمهدئات وجواز السفر يجب أن يختبئ من أعين المحرومين.
حتى تلك المرحلة الأولى من قراءة النصوص، تبدو الأفكار المطروحة والمشاعر المتضمنة متاحة للفهم والتحليل. لكن الشاعرة، بقدر من سذاجة الأطفال واستسلام الأرامل، تطأ أعتاباً جديدة ً لا يصح أن نقصرها باستخدام تعبير مكرور ومسطِح مثل تعبير "غواية الغرب". فالخطوة التي تخطوها خطوة متفردة بذاتها لا ترتبط بدرب سبق أن مشى عليه آخرون، بما في ذلك الكاتبة نفسها، والجسر الذي تعبره بين عوالم متباينة الملامح والقسمات هو جسر يتشكل تحت أقدامها، من خطواتها الوحيدة المستوحشة التي تأبى المشاركة، وكأنما يتهاوى الجسر تحت أقدامها وليس ثمة منقذٍ من السقوط الأخير سوى الاستمرار في الكتابة. يختلف هذا الديوان إذن عن سابقيه، ممر معتم يصلح لتعلم الرقص و المشي أطول وقت ممكن. ثمة تجربة جديدة تعبر عن نفسها بقسوة هنا، فالغواية الأعمق في الديوان هى غواية الوحدانية القاتمة، غواية العزلة التي خبرتها "امرأة تمسح الغبار عن جبل" تتأملها القصيدة بعين تدربت على الفضح وتبدو مفتونة بها إلى النهاية. إنها تلك الجاذبية الخاصة والملحة التي يشعر بها الكتاب من فصيلة بناة الجسور وصانعي الخرائط: في عزلتهم، تبدو الكتابة معولاً للبناء والهدم، فالجسر الذي تبنيه القصيدة هي وحدها قادرة على هدمه، من قلب اليأس ذاته، من هاجس "الأصالة والأنانية" الذي يخايل الشاعرة، من عمق الخيال "الملوث بدماء الواقع". تلك الجغرافيا البديلة التي يطرحها الديوان هي جغرافيا الخطوة المنفردة الوحيدة على الجسر، التي تبدو ظاهرياً متناقضة مع فعل الهجرة كتوق للخلاص أو لاكتشاف المجهول، لكنها متسقة مع تناقضها، تتمسك بوحدانيتها وتحلم بالخروج من "سلطة جسد ميت" . ليس جدلاً هيجيلياً بين طرفين نقيضين، الحياة/الكتابة، وليس بحثاً أفلاطونياً هدفه وحدة الأنا والوجود، بل اعترافاً يخالطه الشك المرعب بأن الحياة ، هنا وهناك، موجودة لتراقب من بعيد. هكذا تبدو الكتابة (غواية صنع الخرائط) وكأنها نشأت من مناطق الأمل المفقود،أو من واقع خبرة طويلة في العطش.
في الديوان على عمومه ثمة انسحاب للداخل تنشأ عنه متعة خفية ماكرة، ترتبط أيضاً بفكرة الوحدة كشكل من أشكال مكر الانسان بأخيه الانسان. أقصد الانسحاب مثلاً لمنطقة الذاكرة (عبر ذكريات الطفولة والحب والموت) أوالانسحاب لمنطقة الصورة وما تستدعيه من أفعال التوالد والتلصص والتكرار والتسلسل مثل صورة الشاعرة تتأمل امرأة أخرى تتأمل صورة جبل، أو صورة الشاعرة تتلصص علي رجل سمين يتلصص على العالم من خلال الشاشة الصغيرة. تبرز هنا أشكال أخرى للغواية: الصورة التي نعرفها والتي نصنعها بذاكرة أعيننا تولد صوراً جديدة حاضرة و صوراً قديمة تتجدد بتجدد الوعي والتفسير. الذاكرة موصل جيد للحزن، وسيط الشاعرة بين العالم وصورة العالم، بين المكان هنا والفضاء هناك، بين الحب الذي مات بموت الروائي الشاب والغرام الذي يحيا في الاحتمال، وفي قصائد الملهمات. غواية إعادة تشكيل الذاكرة
تنفتح أيضاً على أصل الصوت ومستقره بعد فناء الجسد (الصوت، سراب الكافر) وتقدم الصور والأصوات بوصفها وسائط حياة. عندما ينتفي الوسيط ينتفي طرفا الوجود المؤقت وتصمت القصيدة أو تبحث لنفسها عن متنفس جديد، عن طاقة أخرى لممارسة الحزن. تلك الذاكرة التي تشبه "جسر الشيفون" ،ليست بديلاً للواقع بل تتوازى معه وتحيا من أجل ذاتها وأحياناً من أجل الشعر. يقول الفارابي ما معناه إن الإنسان ينشد السعادة لا لغرضٍ خارجي تتحقق السعادة بتحققه، وإنما ينشدها من أجل ذاتها. الصورة الذهنية والبصرية مصدر غواية منشودة لذاتها، غواية لا تسعى الكاتبة بالضرورة للتخلص منها بممارستها على العكس من غواية الحب أو وهم الغرام الذي بلله المغنون بلعابهم. الصورة، مثلها مثل أيقونة كليوبترا المشنوقة في عنق الكاتبة، هي رمز لحياتها القادمة (في الغربة وفي الغرب البديل) ووسيط لا غنى عنه لحياتها الباطنية (في بلد الشعر والوحدة). الصورة مشنوقة بدلال (لو شئنا التعبير) في عنق الشاعرة، مثل المومياء موضوع الفرجة التي يبقى لها شرف أنها "لم تختر هجرتها"، وكأن المومياء هي نفسها صورة الشاعر (الرومانسي؟) في شبابه الأبدي.
ذلك الواقع الضبابي الذي تقف حياله الذات معذبة حيناً مدعيةً فهمه وتجاوزه حيناً آخر هو واقع الاغتراب بالمعنى الواسع للكلمة، من حيث هو حال وسيطة بين حالين. وكأن الشاعرة قد اختارت لنفسها المطهر عوضاً عن الفردوس الذي منه تخرج راضية مرضية، وعوضاً عن الجحيم الذي يقع في هوته المهاجرون الفاشلون والشعراء والملهمات والأستاذ الذي انقطعت صلته بالعالم والطبيب الذي وبائع الخرائط الذي هرب من الحرب فإذا بها تلاحقه. كتابة تقف عند حدود المطهر وكأنما هي في ورطة، لا قدرة لها على احتمال العذاب ولا رغبة لديها في الاستسلام للرضا المخزي، لا فرق في ذلك بين كابوس الوطن هناك وكابوس الهجرة هنا.
من حسن حظ الشعر، هناك دائماً وسطاء يمدون بين الشاعرة وبين العالم خطوط المحبة: اللغة الأم مثلاً تقوم مقام الوسيط القادر على أن يمنحها شعوراً بالامتلاء الكامل (لأن حبلى هي الكلمة التي تجعلك ممتلئة بنفسك/ أنتِ حبلى إذن). بينما التورط في سياق لغة أجنبية يعادل التورط في وهم التواصل والاستقرار: هي لغة تقف حائلاً دونها ودون الآخرين، قد تسمح بأن يتعذب الطبيب، أويدرب الغرباء الفشلة عضلات أفواههم للتخلص من اللكنة،أو تنغرس كنصل في قلب المهاجرين فيموت الروائي الشاب وهو يعرف "صعوبة الحياة عندما يحاول وضعها في لغة أجنبية". لكن الشعر يعي رموزه اللغوية جيداً ففيما عدا الحكايات التي يتقابل عند حدودها سوبرمان وأمنا الغولة، من الصعب أن تلتقي في متن القصيدة لغتان إلا إذا سمح سياق الحوار بذلك، وهو ما يجعل الجمل القليلة الناتئة باللغة الإنجليزية موضع استغراب (من الغربة أيضاً) مناسباً تماماً لجوهر القصائد وغايتها. الكتابة بلغة الأم قادرة على تقديم بدائل للحزن، أو لرفع الأذي عن المعذبين، قادرة على اقتراح بدائل للفشل و الاشتياق الممض لأرض هناك، يعود إليها المهاجرون في توابيتهم. الكتابة تجعل الحياة هنا وهناك موجودة بالقوة، لكي تراقـَب من بعيد، لكنها على الأقل حياة موجودة، بوهم الكتابة.
تسقط عن قصائد إيمان مرسال شبهة الغنائية السهلة التي تلاحق أدب الغربة، حيث تضع الشاعرة قناع القسوة والتهكم وكأنما تنحني لتلتقط من سلة المهملات "فكرة تبرق كلؤلؤة"، فكرة انفرادها بشعور الوحدة والنقصان، هي أيضاً فكرة التوازي الممكن بين عوالم وأمكنة وشخوص تبدو ظاهرياً مختلفة متنافرة يجمع بينها أنها مؤشرات غياب ونقص. هكذا يتوقف فعل الشكوى من الغربة عند حد الشكوى والحنين للمكان الغائب، الوطن الذي لا تسميه إلا بكلمة هناك، الشكوى دون توقع للخلاص ودون رغبة في التغيير. إذ تدرك الكاتبة أن لا سبـيل للاكتمال، لا سبـيل لفهم الواقع الخارجي (بما في ذلك الهجرة، الدولة، الحرب، إلخ) إلا باعتباره واقعاً يشوبه الخلل والنقص، يصلح للتأمل من موقع المتفرج في شرفة أو من موقع السائر في مدينة غريبة لا تعرفه (باريس، بوسطن، نيويورك). الواقع أيضاً عندما يكون مصدر حزن لا سبيل لزحزحته، يصلح لأن تلعب معه الشاعرة، بنفس الصوت المتهكم من ذاته، لعبة الادعاء والعناد الطفولي (قررت أن تظل هكذا حتى يعود من تجربة الغرب / مدعية ً النوم ... عاريةً ... وتحت ملاءة شفافة). هذا الجسد العاري فعلياً بعد لحظة الحب وقبـيل لحظة الوداع، العاري مجازاً في هيئة مومياء جميلة موضوع الفرجة، يقدم نفسه كأيقونة مقلوبة للغواية ينفتح على تأويلات كثيرة ليس من بينها اكتمال الجسد وتحققه في فعل الحب، ولا خلوده باعتباره مؤشر على التاريخ المجيد في فعل التحنيط، بل بوصف هذا الجسد موضوعاً للتأمل ولابتكار حياة متخيلة حياة "مرْضِّية وميتة" ليس فيها موقع للتمرد ولا للتحايل على الفناء.
الجسد مكان، فيه وبه تتحدد الأمكنة، الجسد هنا لأنه قريب وخاص، يختلف عن الفضاء بمعناه الواسع، هناك. استحضار الأمكنة عبر صور الجسد لعبة تحبها إيمان مرسال منذ قصائد "ممر معتم" وتزاولها بمهارة في "جغرافيا بديلة"، إذ لا معنى لتجربة الغرب بوصفه فضاءً عاماً (مع التهكم بالطبع من تلك التسمية) إلا لأنها مضمرة في مشهد حب ووداع، ولا تتخذ الهجرة بعداً درامياً إلا من منظور دكان الخرائط (فالخريطة جسد الأرض) أو من خلال نزهة في شارع في مانهاتن، أو أثناء لقاء في الجامعة يوحي بإمكانات الخيانة (ليس تجاه الأحياء وإنما تجاه الموتى، ومن هنا جمال الصورة وتأثيرها)، تماماً مثلما يلخص جسد امرأة ترقد تحت البيانو رفاهية حي من أحياء القاهرة، أو كما يصمد جسد "تحت مشارط تمسكها قفازات" أمام تهديد الذاكرة، لأن "الذاكرة المهددة بالفناء تعيش أكثر". الجسد هو المطهر، هو مكان الوحدة الأصيل، هو موطن الهجرة الدائم من مصحة طبيب نفسي إلى مصحة طبيب نفسي آخر، هو جسد القطة، تستدعيه الشاعرة من العالم الآخر بدعوى الشعر، جسد يتفرج. من هذا وذاك، تتشكل غواية السفر والرحلة، من لحظة امتطاء الجسد مكاناً للحظة تحوله إلى مومياء لن تكون أبدأً جزءاً من وردة، غواية لا سبيل للتخلص من ندائها إلا بتلبيته، تتجدد بتجدد الرغبة، "ولا شىء يكفي".