Tuesday 3 March 2015

تربية الطيور الروميّة




لم يكن في بيت جدّي كتب ولا مكتبة؛ فقط المصحف الشريف فوق خزانة الأطباق والفناجين في غرفة الجلوس. كانت الخزانة عالية، وبجانب المصحف صورة رجل مركونة في إطارها على نفس الحائط ظننتها لقريب مات، إلى أن أدركت أن الرجل اسمه جمال عبد الناصر وأنه كان رئيساً لمصر.
حدث أن قرر جدّي طلاء جدران الغرفة. بدأت فوضى توزيع أثاثها على الغرف الأخرى. ظهر كتابٌ ربما كان مخفيّاً خلف القرآن أو تحته. بدا للوهلة الأولى مقدّساً أيضاً، لولا أن هناك رسومات لطيور روميّة بأنواعها المختلفة وبيوتها وحقولها. لم يكن باستطاعتي قراءته بسهولة بعد، ولكني أخذته لنفسي ولم يفتقده أحد.

عنوان الكتاب “تربية الطيور الروميّة”. اسم المؤلف، عبد المحسن عبد الغني صبّاح وتحته “دبلوم عال في تربية الدواجن من لندن”. الكتاب الذي تمّت طباعته في مطبعة ملجأ الأيتام بشبين الكوم في ١٩٤٠، مكوّن من ١٢٧ صفحة من الحجم المتوسط، وغلافه الذي يبدو ترابيّاً قد يكون في الأصل بين الأصفرَ والبنيّ. في آخر الكتاب صفحة تصويب لبعض الأخطاء الطباعيّة التي تدلّ على العناية الفائقة باللغة، فبعضها تصحيح لوضع همزة أو إضافة لواو عطف سقطت من بين جملتين.
احتوى بيت جدّي إذن على كتابين فقط، تجاورا في أعلى الخزانة لسنوات. أحدهما مقدّس والآخر دنيويّ، أحدهما روحيّ ومركزيّ، والآخر علميّ ومُهمَل. وجود القرآن في البيت بركة، أما كتاب عمليّ عن كيف تربي الطيور الروميّة فلابد أن وراءه حكاية. هل أعطى المؤلف نفسه الكتاب هدية لجدي على أمل أن فلاحاً مصريّاً سيُنشىء مشروعاً انتاجيّاً يعود عليه “بالخير الوفير” كما يقول في مقدّمته القصيرة؟ إذا كان ذلك ما حدث، فلابد أن المؤلف شعر بسعادة وهو يرى جهده يصل لمن يحتاجه. كأن رسالته كمؤلف لا تنتهي بتأليف الكتاب بل بتوصيله ليد مَن ألفه من أجلهم. لقد كتب صبّاح في مقدّمته:
“[…] وكانت التربية في البلاد الأجنبيّة في مقدّمة الصناعات التي درّت على أربابها خيراً وفيراً، لتوخيهم الطرق السليمة، والتجارب القويمة، وكانت عندنا قائمة على الحظ وحده، الذي إذا صادف مرة فقد يُخطيء مرات؛ رأيت أن أضع هذا الكتاب المتواضع، التي خلَت مكتبتنا العربيّة من أمثاله، رغبة مني في أن أذلّل ما عساه يعترض المربّي في تربية الطيور الروميّة من عقبات، وما قد يخشاه من فشل أو إخفاق”.


لنتخيّل أن صبّاح أفندي العائد من لندن بعد حصوله على دبلوم في تربية الدواجن، والذي وضع كتاباً ينقل فيه ما تعلّمه إلى أبناء وطنه، قابل جدّي بصدفة ما في عزاء أو قطار أو في زيارة للباشا جورجي صاحب الوسيّة التي كانت على أطراف القرية مثلاً. ربما أمام قصر الباشا الذي سيصبح بعد ذلك بيتاً للعفاريت، حيث كان جدّي يمرّ يوميّاً في طريقه إلى أرضه. أنه بعد حديث قصير توسّم في جدّي النباهة والطموح فأخرج الكتاب من حقيبته وناوله إيّاه فأخذه بامتنان وشكره ومضى. ولكن كيف لم يخبر جدّي صبّاح أفندي أنه لم يتعلّم القراءة! هل خجل من هذه الحقيقة؟ هل خشى أن يُحبط حماس وتفاؤل المؤلف الذي يراهن على قيمة ما تعلّمه وكتبه؟ إذا كان ذلك ما حدث، فالكتاب شاهد على خديعة اقترفها جدّي - من كان عليه أن يقوم بدور القاريء - للكاتب. كما يكون الكتاب شاهداً بنفس الدرجة على إخفاقات نقل التربية والصناعات من البلاد الأجنبيّة إلى “مصرنا العزيزة” - كما يسميها المؤلف في مقدّمته.
يمكن تخيّل سيناريو آخر أقل دراميّة؛ مثلاً، تناول أحد المهندسين الزراعيين الغداء في بيت جدي في ظهيرة ما بين صدور الكتاب في١٩٤٠ وبين أوائل السبعينيّات، ونساه على الكنبة. لم تستخدمه جدّتي في إشعال الفرن لأنه قد يكون به اسم الله، فوضعته فوق الخزانة ونسته. مرّ زمنٌ عليه وهو في صحبة القرآن الكريم لدرجة أن لمسة من القداسة أصابته.
أيّاً كانت الحكاية؛ “تربيّة الطيور الروميّة” هو أول كتاب أمتلكه في حياتي قبل أن يكون باستطاعتي قراءته، وهو أول كتاب لم تنته علاقتي به بانتهاء القراءة؛ لم يكن مثل قصص الخلفاء والعظماء التي سنسخر من تبسيطها وكليشيهاتها عندما نكبُر، ولا كالألغاز التي يحلّها المغامرون الخمسة نيابة عنّا. لم يكن حتى يشبه غرابة قصص “دار التقدّم” المترجمة عن الروسية لأطفال الشبيبة العربية، والتي كانت مصدراً اساسيّاً لقراءاتي كطفلة.

يبدو كتاب “تربية الطيور الروميّة” كدليل شامل لكل ما يحتاجه الطامح لتربيتها من معلومات؛ فيبدأ بفصل عن أنواعها، مؤكّداً أن ليس كل طائر صالح للتربية من الأساس، وأن على المربي اختيار مَن يستحق الرعاية. تتوالى الفصول عن كيفيّة العناية بها، تسافدها، الحضانة الصناعية، الطرق الحديثة في التربية، التغذية، ثم بالطبع الأمراض وكيفية الوقاية منها وعلاجها.
هناك كلمات، بل مجالات دلالية كاملة دخلت في علاقتي باللغة عبر هذا الكتاب. كلمات كانت غامضة في القراءات الأولى مثل السُلالة، التهجين، التسافد، الأنقاف، التدجين، الانقراض، سلفات الحديد وسلفات النيكوتين. هناك تعبيرات أيضاً، ظلّت خلّابة مثلما قرأتها في المرة الأولى؛ “مسارح الرومي”؛ الحقول الواسعة التي تتحرك فيها الطيور، حيث ظلت “مسارح” أكثر طرافة - بالنسبة لي - من “ملاعب” في “ملاعب الطفولة”. “التسافد الجيّد والتسافد الضار”، تعبير يحضر إلى ذهني كلما فكرت في الفرق بين الجنس المُلهم والجنس الذي لا جمال فيه. “الدجاجات المرخمات”، أي الراقدات على البيض، تحولت إلى صورة تنط أمامي كلما رأيت امرأة حامل تسند ظهرها وفخذيها مفتوحان قليلاً في وضع استرخاء.



توجد خطوط بالقلم الرصاص تحت سطور وفقرات عدّة. أظن أنني لم أضعها في قراءة واحدة؛ أتخيّل أنه مع كل قراءة كان يتم الانتباه لجملة أو فقرة جديدة كأنها طُبعت للتوّ. سأعتبر هذه الفقرات مُختارات قمت بها في لحظات وأماكن مختلفة، سأورد بعضها هنا، ورغبة في اللعب سأضع لها عناويناً من عندي.






اللمعان
“واللون اللامع القوي (شديد اللمعان) دليل على توفّر القوى الحيوية الموروثة من الأجداد الوحشيّة. فإذا قلَ اللمعان فإن ذلك هو أول دلائل الاضمحلال وإذا زال اللمعان وانعدم كان ذلك دليلاً على انعدام الحيويّة”، ص ١٦.

ما لا يجب تربيته
“والطيور الروميّة البشعة سواء كانت كبيرة أم صغيرة لا تصلح للتربية وكذلك الطيور ذات السيقان والأعناق والرءوس والأفخاذ الطويلة، لذا فليحذر المربي اختيار طيور مشابهة لهذه الطيور”، ص ١٩.

شراهة
“لم يعرف الإنسان حيواناً أكثر شراهة من صغار الرومي، هذه المخلوقات البريئة تأكل حتى تموت من كثرة الأكل”، ص٨٢.

الصرع
“ذكور الرومي أكثر تعرّضاً للإصابة بهذا المرض من إناثه، وغالباً تُصاب أثناء موسم التربية. وخسارة الذكور في هذا الوقت لا تكاد تُعوّض”، ص١١٧
“ويظهر المرض على الطيور بعدم اعتدال مشيتها وترنّحها وظهور الكآبة عليها ظهوراً واضحاً”، ص ١١٨.

الطيران
“تُفضل الطيور الروميّة المسارح الواسعة وتجود صحتها إذا تُركت وشأنها في الحقول الواسعة تسرح فيها دون قيد. ويُشترط أن تكون المسارح جافة الأرض لا أثر للرطوبة فيها. والأمطار الغزيرة ضارة بالأمهات المرخمات “الراقدات” على البيض، كما أنها خطرة جداً على الأنقاف الصغار وبخاصة في أيامها الأولى، وقد تنجح التربية في المسارح المحدودة المساحة إذا أُعطيت بعض الحرية في الخروج منها والتجوال في الأراضي المجاورة بشرط ألا تكون المسارح ولا ما يجاورها من أرض قد وطئت بطيور أخرى من أي نوع كان”، ص ٢١.
“عندما يكون المسرح المعدّ لتربية الطيور الرومي ضيّقاً محدوداً، يجب أن يعمل المربي على منع طيوره من الطيران بوسيلة ما. والأنواع المستأنسة تقنع بسور ارتفاعه ٨ أقدام. أما إذا كانت الطيور بريّة فيجب منعها من الطيران والاختلاط بعضها ببعض اختلاطاً قد يفوّت على المربي قصداً من مقاصده الفنية في التربية”، ص ٢٣.
“وإذا ظهرت من الإناث رغبة في الطيران يُربط جناحها. أما جناح الذكر فلا يُربط لأن الربط يتعارض مع السفاد”، ص ٥٤.

تعاليم التسافد
“وأهم أخطاء التسافد التي تحصل عادة في تربية الطيور الروميّة هي:
تسافد الأقارب الأدنين والاستمرار في التربية من أفراد معلومة فيسافد الأب بناته وأخواته، وتسافد الأخت أخوتها وغير ذلك.
الاهمال في اختبار الآباء والأمهات إهمالاً لا يتفق وأصول التربية، وغالباً ما يُترك هذا الاختيار للظروف والحظ.
انتقاء أحسن الطيور صلاحية لأغراض التربية وذبحها أو بيعها للذبح. وقد تحدث كل هذه الأخطاء مجتمعة”، ص ٤٤.
“ومما لا شك فيه أن شراء الذكور لإدخال الدم الجديد في السرب أرخص من شراء الإناث للغرض نفسه، وذلك لأن الذكر الواحد يؤثر في نتاج إناث عديدة. ويظن بعض المربين أنهم يُدخلون دماً جديداً لأسرابهم إذا ما بادلوا جيرانهم ذكوراً وبيضاً للتفريخ، وهذا ظن خاطيء لأن جميع الطيور الروميّة التي تعيش متجاورة يكون قد سافد بعضها بعضاً في الأغلب فتكون دماؤها واحدة أو تكاد”، ص ٤٧.
“وإذا حصل سفاد بين إناث جيدة ممتازة وذكر أقل جودة منها فإن النتاج يكون رديئاً وتضمحل قيمة السرب بسرعة. وبالعكس لو حدث سفاد بين ذكر جيد جداً وإناث أقل جودة منه فإنه يؤثر تأثيراً حسناً في النتاج إلا إذا كانت الإناث رديئة جداً فإن السفاد لا يجدي في التحسين”، ص ٥٠.
“وإذا كانت الأنثى واسعة الظهر يجب أن يُختار ذكرها بحيث يكون واسعاً ما بين الفخذيْن”، ص ٥١.
“لا يجوز الجمع بين أكثر من ذكر واحد مع الإناث في مسرح ما”، ص ٥٨.
“قاعدة: مسافدة واحدة كافية لتخصيب البيض الذي تضعه الأنثى حتى ترخم. وتبعاً لهذه القاعدة يكون وجود الذكر مع الإناث أثناء فترة وضع البيض لا فائدة منه. بل قد يعود بالضرر”، ص ٥٨.

أمومة
“وأحسن الأوقات وأنسبها لخروج الأمهات وترك أفراخها هو الوقت المحصور بين الظهيرة والغروب. وإذا غرُبت الشمس ولم تعد الأم إلى أفراخها فيُبحث عنها وتُساق لتبيت معهم وتوليهم عطفاً وحناناً ودفئاً في الليل فلا يتعرّضون للبرد”، ص ٣٥.

الأنثى القلقة
“فقد تترك الأنثى القلقة عشها لسبب ما، كموتها أو إصابتها بالطفيليّات المزعجة، فيؤخذ البيض ويُوزّع على إناث الرومي أو الدجاج الراقد أو يوضع في آلات التفريخ”، ص ٦١.

التدجين.
“لكي يتمكّن المربي من العناية بطيوره يجب عليه أن يلمّ بالأحوال التي تحيط بها في حالتها الوحشيّة الأولى والتغييرات التي طرأت على هذه الأحوال بسبب اسئناسها. كما أنه من المهم أن يعلم أن الأنواع التي استؤنست لم تتحسن بالاستئناس “التدجين” إذ أن الطيور الروميّة المستأنسة فقدت كثيراً من المزايا التي كانت لها في حالة التوحّش شيئاً فشيئاً”، ص ٤٢ و٤٣.

البيت
“لتدريب الطيور الروميّة على العودة لبيوتها أو مجاثمها ليلاً، يضع المربي وجبتيّ طعام الصباح والمساء بجوار المكان المُراد تدريبهم على البيات فيه”، ص٣٦.
“قد يكون بيت الحضانة أصلاً لكثير من البلاء”، ص٧٦.
“والطيور التي تنشأ في محابس من هذا النوع تكون أكثر قناعة من التي تنشأ حرة طليقة من كل محبس فلا تعاكس ولا تشاكس ويزيد وزنها تبعاً لتغذيتها. وقد تضيق محابسها شيئاً فشيئاً حتى يُكتفى بالبيت ما دامت الطيور تُظهر الرضا عن هذه الحياة”، ص١٠٦.


لم يكن كتاب “تربية الطيور الروميّة” موجهاً لي، أقصد، لم أكن أنا القارىء الذي توقّعه صبّاح أفندي ولذلك ربما ظل هذا الكتاب مُلغزاً و طازجاً وملهماً بالنسبة لي. إنه أقدم كتاب أتوجّس منه وأحتفظ به في حياتي؛ معي منذ أكثر من أربعين عاماً؛ من بيت جدي إلى بيت أبي ومن القرية للمنصورة ثم شقق عديدة في القاهرة، كما أنه سافر معي ضمن كتب قليلة إلى قارة أخرى. أظن أنني أستطيع أن أؤرخ لحياتي بأين كنت أضعه كل مرة يصل معي سالماً إلى بيت جديد.

عندما تقرأ كتاباً لست أنت المقصود به وأنت طفل، يصبح الكتاب وكأنه رسالة لم تصل لصاحبها ووقعت في يدك بالصدفة. إنها لا تخصّك ولكن كأن القدر استأمنك عليها. تظل الأسماء والأحداث التي تحتويها الرسالة مُستغلقة كرموز أمامك. قد تترك الرسالة في صندوق أو تنساها في دُرج مكتب ثم تطلع لك بدون توقّع وأنت تبحث عن شيء آخر. تقرأها فترى فيها تاريخ قراءاتك السابقة لها. لم يعد مهمّاً أن تفهم رموز الرسالة. كل جملة مهما كانت عاديّة تتحوّل إلى أمثولة أو حكمة لأنك قادر بسبب علاقتك المتقطّعة لكن الطويلة بها على إخراجها من سياقها، على امتلاكها والتحرّك بها في سياقك الخاص، طبقاً لمزاجك لحظة الاستعادة. لم يعُد الكتاب كتاباً إذن، بل تميمة.






نُشرت هذه المقالة في دورية "عالم الكتاب" في إصدارها الجديد؛ عدد يناير ٢٠١٥.