قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد
تشرّد كثيرٌ من الناس في هذا القرن: أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية
متنوعة، سيكون مستحيلاً لي أن أدّعي وضعاً متميّزاً كضحية، أنا أو أي شخصٍ آخر-
إذا أردتُ الصدق. خاصةً أن ما حدث لي منذ خمسين سنة يحدث لآخرين اليوم. رواندا،
البوسنة، أفغانستان، كوسوفو، والأكراد المهانون بصورة لا تنتهي- وهكذا يستمر
الحال. قبل خمسين سنة كانت الفاشية والشيوعية، الآن هناك القومية والأصولية
الدينية مما يجعل الحياة لا تطاق في أماكن كثيرة. في الآونة الأخيرة، على سبيل
المثال، كنت أترجم قصائد من سراييفو لأنطولوجيا شعرية واجه محرّروها صعوبات كبيرة
في العثور على الشاعرة التي كتبتها. لقد اختفت. هي لم تكن مغمورة، كان لديها
الكثير من الأصدقاء، لكن يبدو أن لا أحد يعرف ما حدث لها في فوضى الحرب.
"مشردون"[i]
هو الاسم الذي أطلقوه علينا في 1945، وهذا كان وضعنا بالفعل. وكما تجلس وتشاهد
قنابلَ تسقط في بعض الأفلام الوثائقية القديمة أوجيوشاً يُحارب بعضها البعض، قرى
ومُدناً تتصاعد منها النيران والدخان، لا يخطر ببالك الناس المتكدسون في الأقبية.
لقد دفع السيد البريء والسيدة البريئة وأسرتاهما ثمناً باهظاً في هذا القرن لمجرد
وجودهم هناك. مدانون تاريخياً _ كما كان يحب الماركسيون أن يقولوا _ ربما انتموا
إلى طبقة خاطئة، جماعة عرقية خاطئة، دين خاطىء _ إلى آخره_ هم كانوا وما زالوا
تذكيراً غير سار بكل أخطاء اليوتوبيات الفلسفية والقومية. لقد جاءوا بخِرقهم
البالية ومناظرهم التعسة ويأسهم، جاؤا زرافات ووحدانا من الشرق، هاربين من الشر
بدون أية فكرة عمّا ينتظرهم. لم يكن لدى أحد في أوربا ما يكفيه ليأكل، وهنا جاء
اللاجئون المتضورون جوعاً، مئات الألوف منهم في قطارات، مخيّمات، وسجون، يغمسون
خبزاً يابساً في حساء مائي، يبحثون عن قمل في رؤوس أطفالهم، ويندبون بمختلف اللغات
مصيرهم المروّع.
أسرتي، مثل أسر أخرى عديدة، تمكنت من أن ترى العالم مجاناً، والفضل يعود
لحروب هتلر وسيطرة ستالين على أوربا الشرقية. نحن لم نكن متعاونين مع الألمان ولا
كنا من المنتمين إلى الطبقة الأرستقراطية، كما لم نكن بأي معنى من المنفيين
السياسيين. عديمو الأهمية كُنا، لم نقرر شيئا لأنفسنا. كل شيء رتبه قادة العالم في
وقتها. كالكثير من النازحين لم يكن لدينا طموح يتعدى حدود مدينتنا بلجراد. كنا على
ما يُرام مع ذلك. اتفاقيات عُقدت حول مجالات النفوذ، حدود أعيد ترسيمها، وما يسمى
بالستار الحديديّ[ii]
تم اسداله، ونحن رحَّلونا مع حاجاتنا القليلة. ما زال المؤرخون يوثقون جميع
الخيانات والرعب الذي واجهناه كنتيجة لمؤتمر يالطا[iii]
وغيره، والموضوع أبعد من أن ينتهي.
كما هو الحال دائماً، كان هناك تفاوت في
درجات الشر وتفاوت في درجات المأساة. لم تتعرض أسرتي لمعاناة مُريعة كالآخرين.
أعاد الحلفاء إلى ستالين مئات الآلاف من الروس الهاربين ضد إرادتهم، كان الألمان
قد جلبوهم قبل ذلك قسراً ليعملوا في مصانعهم ومزارعهم. قُتل بعضهم والبقية تم
شحنها إلى معسكرات السُّخرة حتى لا يُلوثوا بقية المواطنين بما اكتسبوه حديثاً من
مفاهيم رأسمالية منحطة. توقعاتنا كانت أكثر ورديّة. كنا نأمل أن ينتهي بنا الحال
في الولايات المتحدة، كندا أو أُستراليا. لم يكن ذلك مضموناً. كانت أسهم معظم بلاد
أوربا الشرقية منخفضة على عكس بلاد أوربا الغربية. السُلاف الجنوبيون، كانوا في عيون
خبراء الجينات الأمريكيين وواضعي قانون الهجرة من الأعراق غير المرغوب فيها
إطلاقاً.
من الصعب على الذين لم يمروا بالتجربة أن
يفهموا حقاً ماذا يعني ألا يكون لديك الوثائق اللازمة. نقرأ كل يوم عن ضباط الهجرة
لدينا وكيف يستخدمون و يسيئون استخدام سلطاتهم المكتسبة لإعادة أجانب مشبوهين من
على حدودنا. السعادة في إذلال العاجزين لا يجب الاستهانة بها. حتى عندما كنتُ
طفلاً، كان بوسعي أن أرى حدوث ذلك. أينما يوجد بيروقراطيين، تكون الدولة البوليسية
هي المثال الأعلى.
أتذكر الوقوف في طوابير لا نهاية لها أمام
مقر البوليس في باريس من أجل استلام أو تجديد تصريح الإقامة. يبدو ذلك وكأنه كل ما
كنا نقوم به عندما كنا نعيش هناك. ننتظر نهاراً كاملاً فقط لنكتشف أن القوانين قد
تغيّرت منذ زيارتنا الماضية، أنهم الآن يطلبون، على سبيل المثال، شيئاً على قدر من
العبث مثل وثيقة زواج والديّ أمي أو شهادة تخرّجها من المدرسة، هذا على الرغم من
أنها في طريقها للحصول على شهادة فرنسية لأنها أنهت دراستها العليا في باريس.
وبينما كنا نقف هناك نتأمل في استحالة ما يطلبونه منا، كنا نستمع إلى شخص أمام
الشباك المجاور يحاول أن يقول في فرنسية ضعيفة كيف احترق بيتهم، كيف غادروا
مهرولين بحقيبة واحدة صغيرة، وهلم جرا، إلى أن يهز الضابط كتفيه ويشرع في إعلامهم
أنه إذا لم تُقدّم الوثائق فوراً فسيتم إلغاء تصريح الإقامة.
هكذا، ما الذي كنا نفعله؟ حسنٌ، عندما يكون
الجو لطيفاً كنا نذهب لنجلس على مقعد شارع نشاهد الباريسيين المحظوظين وهم
يتنزهون، يحملون البقالة، يدفعون عربات أطفالهم، يُمشّون كلابهم، وحتى
يُصفّرون. في بعض الأحيان يقف أمامنا
اثنان ليتعانقا، بينما نحن نلعن الفرنسيين وحظنا التعس. في النهاية نُجرجر أقدامنا
بتثاقل إلى غرفتنا الصغيرة بالفندق ونكتب رسائل للأهل.
بالطبع، لا يصل البريد بسرعة. كُنا نُجَن كل
يوم ولمدة أسابيع في انتظار البوسطجي الذي لم يكن يتحمّل رؤيتنا لأننا كنّا
نضايقه، مع ذلك، وبشكل ما، كانت الوثائق تصل، بفضل قريب ما من بعيد. ولا بد من
ترجمتها بعد ذلك على يد مترجم مُعتمد، يكون عادة غير قادر على التفرقة بين رأس
وذيل طيّات الورقة ذات الخمسين عاماً من مدرسة في مقاطعة في البلقان أو من دفتر
تسجيل كنيسة. في كل الأحوال، كنا نعود إلى الطابور الطويل فقط لنكتشف أن هذه
الوثائق لم تعد مهمة، ولكن شيئاً آخر أصبح مطلوباً. في كل مكتب لجوازات سفر، في كل
قسم بوليس، في كل قنصلية، يوجد مكتب وخلفه موظف حذر سيء المزاج يشتبه في أننا ندعي
غير حقيقتنا. لا أحد يحب اللاجئين. الوضع المبهم لأن تُسمّى "مُشرّداً"
جعل الأمر أكثر سوءاً. المسئولون الذين يقابلوننا لا يعرفون من أين أتينا ولماذا،
ولكن هذا لم يمنعهم من إصدار حكمهم علينا. قد يجلب لك قدراً من التعاطف أن تكون
مطروداً بسبب النازية، أما أن تُغادر بلدك بسبب الشيوعية فهذا ما يصعب قبوله. إذا
كان المسئولون يساريين، فسيقولون لنا بفظاظة أننا تُعساء ناكرون للجميل، أننا
تركنا خلفنا أكثر المجتمعات تقدماً وعدالة على وجه الأرض. الآخرون حسبونا مجرد
رعاع بشهادات مزيفة وماضٍ مشبوه. حتى الدُمى المبتسمة خلف فتارين المحلات في شارع
فيكتور هيجو الأنيق عاملتنا وكأننا هناك لنسرق شيئاً. في الحقيقة كان الأمر بسيطاً
للغاية: إما أننا كنا سنحصل على موطيء قدم هنا أو في مكان آخر، أو سنعود إلى مخيم
للاجئين، أو، الأسوأ، إلى "التجسيد الكامل لشوق الانسان العميق للعدالة
والسعادة" كما اعتاد العالم الشيوعي أن يوصف في بعض الجهات.
الهجرة، المنفى، أن تكون بلا جذور وأن تصبح
منبوذاً، ربما يكون ذلك أكثر الطرق المبتكرة لاقناع الفرد بالطبيعة الاعتباطيّة
لوجوده أو وجودها. لسنا في حاجة إلى طبيب نفسيّ أو مُرشد روحيّ طالما أن كل من
نقابلهم يسألوننا من أنتم بمجرد أن نفتح
أفواهنا ويسمعون اللكنة .
الحقيقة هي أننا لم يكن عندنا أجوبة واضحة. بعد ترجرجنا
في القطارات المخيفة وفوق الشاحنات والسفن التجارية المهلهلة، أصبحنا لغزاً حتى
لأنفسنا. في البداية، كان ذلك صعباً علينا ولكن بمرور الوقت بدأنا نتعوّد. بدأنا
نتذوق هذا الوضع ونستمتع به. أن تكون لا أحد بدا لي شخصياً أكثر إثارة من أن تكون
شخصاً ما. الشوارع كانت مليئة بأولئك الأشخاص المهمين وهم يصنعون أجواء الثقة
حولهم. نصف الوقت كنت أحسدهم، نصف الوقت كنت أنظر إليهم في شفقة. لقد كنت أعرف
شيئاً لم يعرفوه، شيئاً من الصعب معرفته إذا لم يركلك التاريخ بقوة في مؤخرتك: كيف
يبدو الأفراد غير ضروريين وعديمي الأهمية ضمن أي صورة كبيرة! كيف أن هؤلاء القُساة
لا يفهمون احتمال أن يكون ذلك هو مصيرهم أيضاً
[ii] الستار الحديدي Iron
Curtainبمعنييه المادي والمجازي هو ما كان يفصل بين
أوروبا الغربية والشرقية، وقد ظل هذا الستار الذي فرضه الاتحاد السوفيتي السابق
قائما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى نهاية الحرب الباردة
بانهيارالاتحاد السوفيتي عام 1990.
[iii] مؤتمر يالطا
عقد بين 4 و11 فبراير 1945، وحضره رؤساء أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي
لإعادة ترتيب أوربا التي مزقتها الحرب العالمية الثانية.