"معرفتي فيك ما كانت طبيعيّة"؛ ولكن ربما لم تكن هناك طريقة في سياق القاهرة، في التسعينيات، في الصداقة التي وصلنا إليها من شارعين مختلفين لأن تكون طبيعية. أتخيلك يا حلمي وكأن يدك كانت ممدودة بسلامٍ لشخص لا يعرف كيف يُسلّم. أنه كان على هذا الشخص أن يقول إن السلام باليد تقليد سخيف ثم في يوم آخر يعترف بأنه غاضب ولا يريد سلاماً مع أحد، ثم في لحظة صدق سيمسك بأطراف أصابعك ولا يعرف ماذا يفعل بها.. وربما في يوم آخر سيمد يده لك متصوراً أنها مبادرته الشخصية.. في كل خطوة يبحث ذلك الشخص عن الكلمات ليعبر عن نفسه .. ويجدها.. لأنك كنت دائماً هناك لتسمعه.. بدون يدك الممدودة في اتجاهه لم يكن ليحدث كلام ولا إشارات ولا تردد ولا إنصات.. أنا مدينة في صداقتي بك ليدك الممدودة ولطموحك الدائم بسلامٍ يجمعنا.
ليس لديّ رغبة أن أخبرك كم أنا مدينة لقصائدك أيضاً، ربما أن ذلك مزاج آخر.. مع ذلك عندما غادرت مصر في 1998 وكأنني لن أعود أبداً ... كان عليّ أن أختار من مكتبتي ما لا يزيد عن حقيبة واحدة؛ ظللت أستبعد ما يمكن الاستغناء عنه، ثم ما يمكن تخيّل الحياة بدونه .. ولكن قصائدك كانت مما لم يمر بلعبة الاستبعاد هذه للحظة. ذلك أن قصيدتك تستحق أن يُعاد قراءتها في لحظات مختلفة، ذلك أنها عتبة في وعيي بالشعر والأكثر من ذلك أنها من القصائد التي تشعر فجأة بالحاجة إليها.
لقد عاشت صداقتنا بالحكايات والضحك كما عاشت بالقصائد.. أنت كنت مولعاً برحلة الأب، بالبرتقال والشاحنات، وبالطبقة التي ظلت تنكمش حتى أصبحت لا تُرى.. أتعجب الآن من متعتنا في تتبع تاريخ العائلة... كأننا كنا نتبادل الأحزان والفضائح التي تُخجلنا والرغبات التي نتفاداها، والمصائر التي لا نفهمها..كنا نتبادل ذاكرتنا كعربون صداقة. أنا كنتُ هاربة من حنان الأب وطموحه وعندما واجه أبي الموت ونجا منه لم أكن أعرف كيف أصبح ابنة صالحة لأبٍ عائد لتوه إلى الحياة.. لكنك في ليلة أخذتنا إلى دار الأوبرا، وأذكر أني جلستُ بينكما، بين رجُلين طَرِبيْن يهمسان مع وديع الصافي "دار يا دار يا دار"، بينما أنا أفكر في الطريقة التي أنتمي بها لكل منهما.
حلمي، ما زال يدهشني أنك ربما تكون الشخص الوحيد في العصر الحديث الذي كان يعشق الملوخية مع "القشطة" في طفولته.. ملوخية وقشطة.. معاً.. في نفس الطبق ..وبنفس الملعقة.. ولكنك والحمد لله لم تكتب عن ذلك.
صداقتنا لم توجد بسبب غرامنا بالكتابة، الغريب في الحقيقة أنها تحققت رغم غرامنا بالكتابة!
لقد خرّبت الكتابة صداقات كثيرة في حياتنا..أنت تعرف ذلك. أعتقد أن حنانك هو ما أسرني فيك قبل الكتابة وبعدها... مرة في غرفة أدب ونقد، كنت تجلس أمام ملفات وتصحيحات .. مادة ما لم تصل، وعامل التليفون لا يرد ومقالة ما لم تُكتب على الكمبيوتر في طابق آخر بينما المقالة التي كُتبت والحمد لله مليئة بالأخطاء.. في وسط هذا التوتّر دخل رجلٌ منهك وعرقان .. وجلس ببساطة يشرب القهوة ويقرأ لك قصائده.. أنت جلست تسمعه وتردد "الله"، "يا سلام"، "أيوة" تماماً عند القوافي التي يتوقع إطراءً فيها.. كان مشهداً عبثياً بالنسبة لي وكنت على وشك أن أصنف جيل السبعينيات كله بـ "ليس راديكالياً" ..(ألم يكن ذلك زمن التصنيفات؟). أنا تذكرت ذلك منذ سنوات وفكرتُ فيك؛ لابد أنك كنت تعرف يومها أن ذلك الرجل صحا في مدينته البعيدة من نومه مبكراً وأخذ البيجو إلى القاهرة ونزل في الجيزة وركب أتوبيساً إلى التحرير ثم مشى في الحرّ إلى عبد الخالق ثروت وطلع على قدميه إلى الدور السادس وهو يحمل قصائده. أظن الآن أن هذه هي الراديكالية يا حلمي، أن نستطيع حقاً أن نتخيل مكان الآخر ونفهمه ونحترمه كما هو. هذا ما يجعلني ممتنة لحنانك، حنانك ليس تجاه أصدقائك ولا من تحبهم فقط، بل تجاه العالم نفسه، أنت من كتبت يوماً "أن الناس مظلومون على كل حال".
عندما وصلتني أخبار رئتك تمنيت أن أكون في القاهرة، وأن آخذك إلى الفحوصات في هذا المبنى الكئيب على النيل.. أن نقابل طبيباً شاباً ووسيماً واثقاً من نفسه، وأن يؤكد لنا في الظهيرة أن كل شيء على ما يرام، أنك بخير.. فنخرج إلى النيل وأعزمك على حمص الشام.. ثم أغني ما يأتي على بالي لمحمد عبد المطلب ... ذلك الخيال ليس في الحقيقة إلا تكرارا حرفيّا لما فعلته معي في أحد أيام 1995 بعد أسابيع من الانتظار والرعب.
لقد حكيت كثيراً عن الماضي، مع أنني فقط كنت أريد أن أردد مع أحمد يماني "ستنجو يا حلمي"، لنمشي بصداقتنا خطوات أخرى.. الصداقة لا تحدث في الماضي والحاضر فقط.. إنها تحدث أيضاً في المستقبل.
إيمان، ٦ مايو ٢٠١٢
قرأت الشاعرة غادة نبيل هذه الرسالة مني في احتفاليّة بالشاعر حلمي سالم أثناء مرضه الأخير.
الأحد 6 مايو ٢٠١٢ بنقابة الصحفيين ضمن شهادات عدّة لشعراء مصريين وعرب.