Saturday 16 November 2013

محمود عمر - حتّى تتخلّى إيمان مرسال عن فكرة البيوت




ترى إيمان مرسال (1966) ما نعجز نحن، لفرط انشغالنا، عن رؤيته. تمسك بلحظات إنسانيّة تكاد تبدو عاديّة قبل أن نكتشف حين تصيّر تلك اللحظة شعرًا كم كنّا نحن مخطئين وعاديين. الشاعرة المصريّة المقيمة في كندا تكتب قصيدة سرديّة حديثة تطول حينًا وتقصر أحيانًا، لكنها تظلّ، في كلّ الأحوال، محتفظة بنصيب وافر من الذكاء والخفّة وربما قلنا: من الفلسفة.

في ديوانها الأخير «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» الذي صدر عن داري «شرقيات» و «التنوير» تهجس إيمان مرسال بالحب، بالمنفى والمسافات الطويلة. الديوان الذي يقع في 92 صفحة ويضم 37 قصيدة مكتوبة بين 2007 و 2010 مقسّم إلى ثلاثة أجزاء هي: «وفاتتني أشياء». «ونصنع وهمًا ونتقنه». «الحياة في شوارعها الجانبيّة». صدرت لمرسال من قبل أربعة دواوين هي: «اتصافات» (1990)، «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» (1995)، «المشي أطول وقت ممكن» (1997)، و «جغرافيا بديلة» (2006). ويبدو أنّ الشاعرة التي طلّقت الشعارات الكبيرة لا يزال في جعبتها المزيد.
Mahmoud Omar
في حديثها لإذاعة مونت كارلو الدوليّة، قالت إيمان مرسال عن الديوان: «طبيعة اللحظات والتجارب التي عشتها ساعدتني كثيرًا في الكتابة». اللحظات تلك، حين نقرأ الديوان، نكتشف كم هي لحظات هشّة وعابرة لولا نقاط تفتيش إيمان مرسال التي تستوقفها وتفتّش فيها عمّا هو أبديّ. في قصيدتها «مقبرةٌ سأحفرها» ترسم مرسال مشهدًا لها وهي في طريقها إلى المقبرة التي ستحفرها للعصفور الميّت بين يديها. الجنازة المكونة من شخص واحد كان يجب أن تكون مهيبة، تقول القصيدة، «لولا هذا الحذاء الرياضيّ» تقول القصيدة والقواعد التي لم يكتبها أحد، واتّفق عليها الجميع .
التخلّي كلمة مركزيّة في حياة الشاعرة الأربعينيّة، وفي اشتغالاتها الفكريّة. سواء كان ذاك التخلّي كبيرًا وقديمًا حين يتعلق الأمر بشعارات القوميّة والقضايا الكبرى (في الديوان قصيدة عنوانها «كأس مع أحد القوميين العرب»)، أو كان تخليًا متأخرًا وفرديًا. عن الأخير قالت إيمان مرسال: «هذا هو النضج بالنسبة لي، أن تتخلى عن مقولات حول الكتابة والغرض منها. مقولاتٌ كنت أنت نفسك قد وقفت وراءها ودافعت عنها».
«"الربيع العربيّ» ليس ربيعًا حقًا بالنسبة لإيمان مرسال. في لحظة الاندلاع، لحظة القمّة، كانت تشعر، وكثيرون معها، أنّ ما يحصل «أكبر منّا كأفراد». ربما سمعت هي أيضًا «أجنحة التاريخ ترفرف فوق ميدان التحرير»، لكن المستقبل القريب كشف عن بؤس الخطاب الثوري، إذ قدّمت الانتفاضات جديدًا في الغرافيتي والموسيقى لكن «أبدًا ليس في اللغة»، حسب رأي الشاعرة البعيدة.
في قصائد الديوان الأخير، ليس هنالك مستوى واحد للواقع، بل عدّة مستويات. في قصيدة قصيرة نسبيًا، يمكن لإيمان مرسال أن تنتقل، وتنقل معها القارئ، من قارة إلى قارة، من توقيت إلى توقيت. إقامتها في بلد بعيد عن «هنا» جعلها تورده في القصائد على أنّه «هناك» وتتساءل بسخرية بيضاء: «ماذا يفعل شخصٌ جاء إلى «هنا» ليقرأ قصائده عن «هناك» / لأناسٍ ليسوا من «هناك» حين يأكله الذنب / سوى أن يقف مثلي الآن في شرفة فندق خمس نجوم ويشعل سيجارة / ثم يلعن العالم بالصراخ والهمهمة».
عن اليوميّ والمعاصر، عن السير الذاتيّة وتلك «الحياة التي حَشرَ فيها أكثر من أب طموحه، أكثر من أمّ مقصاتها / أكثر من طبيب مهدئاته، أكثر من مناضل سيفه، أكثر من مؤسسة غباوتها، أكثر من مدرسة شعرية تصوّرها عن الشعر». عن العالم الذي ينقصه شبّاك أزرق، عن الحبّ الذي قد يكون نسيان رجل لساعته بجوار السرير، وعن فكرة البيوت تكتب إيمان مرسال. تكتب حتى تتخلّى وتقول: «ليكن البيت هو المكان الذي لا تلاحظ البتة إضاءته / السيئة، جدار تتسع شروخه حتى تظنها يومًا بديلاً / للأبواب». 

شبكة قدس الإخبارّيّة، 17 أبريل 2013.

عبلة الرويني - لم تُصفق الباب وراءها



 


عبلة الرويني

لم تمارس إيمان مرسال لعبة الأمهات فى إخفاء الوجه عن أطفالهن، ثم كشفه سريعاً، لتعود الضحكة إلى وجوه الأطفال، لم تمارس تلك اللعبة مع أطفالها أبداً، فقبل أكثر من ثلاثين عاماً ماتت أمها، وما زالت تنتظر وجهها أن يظهر مرة أخرى.. تمسك إيمان بالصورة الفوتوغرافية الوحيدة التى تجمعها وأمها، طفلة فى الخامسة (لا تبتسم)، تقف إلى جوار أمها (التى لا تبتسم أيضاً، رغم أنها لم تكن تعرف أنها ستموت بعد ذلك بسبعة وأربعين يوماً، بالضبط) صورة فوتوغرافية هى كل ما تبقى من الأم، هى كل الذاكرة، وكل الشعر (سيكون مضحكاً التفكير أن علاقتى بألعاب الأطفال شكلها غياب أمى، والأنكى الادعاء أن موتها هو سبب وجودى هنا، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، وكأننى أجرب غياباً وهمياً عن كل هؤلاء الذين أريد أن أكون معهم)..

قبل عشر سنوات، غادرت إيمان مرسال مصر، إلى كندا (أستاذة فى إحدى جامعاتها) تزوجت أمريكياً، وأنجبت أبناء أمريكيين، تنقلت من مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى متحف، إلى معرض، إلى مهرجان، ومن (طريق الحرير) شرقاً، إلى (طريق العبيد) جنوباً.. سافرت كى تمشى وحدها أياماً، أو سنوات، لتكتشف بعد كل هذه السنوات، أنه لا جغرافيا بديلة، وأنها تحتاج أكثر، إلى كل هؤلاء الذين تصحو وتنام بدونهم، وأنها سافرت لتجرب غياباً وهمياً عن كل الذين تريد أن تكون معهم.. غادرت إيمان مصر دون أن تصفق الباب وراءها، كما سبق وفعلت (نورا) فى مسرحية أبسن (بيت الدمية)، إيمان تركت الباب مفتوحاً، لأنها ستعود دائماً..
صفقة الباب المدوية التى أطلقتها (نورا) وهى تغادر بيت الزوجية إلى الأبد، تلك الصفقة التى هزت أوروبا كلها فى القرن الـ19، بحثاً عن سؤال المرأة، وجودها وحريتها.. صفقة نورا التى عصفت برومانسية عصرها، واتخذت مثالاً للتمرُّد على البيت والتقاليد، حاسمة العلاقة بين الحقيقة والوهم.. ظلت خارج ذاكرة الشاعرة المصرية، فلم تكن إيمان يوماً تلك الدمية، ولم يكن خروجها مدوياً، ولم تصفق الباب وراءها، بحثاً عن حرية، أو رغبة فى التمرّد على البيت والأهل والتقاليد، خرجت لتمارس الاكتشاف والرغبة فى المعرفة، وتواصل لعبة الأمهات، يختفين، ليظهرن مرة أخرى أكثر حباً والتصاقاً..
ديوان إيمان مرسال الخامس (حتى أتخلى عن فكرة البيوت) الصادر قبل أسابيع عن دارى (شرقيات - التنوير) سردية أقرب إلى السيرة، سيرة على اتساع حركتها، وتنقلاتها بين أزمنة الطفولة وأماكنها، بين وجوه الأهل والأصدقاء، لم تقع فى (النوستالجيا) فاللغة محايدة، خالية من المبالغات العاطفية.. ورغم استخدام السرد، فالشاعرية تحضر بكثافة، مفارقات مدهشة ربما أقل سخرية من قصائد سابقة، لكنها أكثر عذوبة، كسر للمتوقع الجمالى، خروج متواصل، وكثافة فى الحركة منحت الديوان حيوية الإيقاع، وحرية مضاعفة فى التقاط التفاصيل ورؤيتها وإدهاشنا.

جريدة الوطن 31 مارس 2013.