لم أجد سنيّة صالح في القاهرة؛ بدأت رحلة البحث قبل سفري إلى مصر هذا الصيف، حاولت مكتبة «تنمية» ومكتبة «الكتب خان» الحصول على نسخة من أعمالها الكاملة الصادرة عن «دار المدى» من أجلي ولم تنجحا في ذلك. بعد وصولي، ذهبتُ إلى «دار الشروق» حيث قسم الشعر مختبئ تحت السلم الداخليّ للدار، ويقتصر على شعر العاميّة المصريّة الأكثر مبيعاً
الشعر أفضل حالاً في مكتبة «مدبولي»؛ ستجد محمود درويش ومحمد الماغوط وأدونيس مع الأبنودي وأحمد فؤاد نجم مرئيين في الدور الأول. قال لي البائع الخبير الذي أعرفه منذ كان شاباً في التسعينيّات: «مين هي سنيّة صالح؟»، وأخذني لأبحث بنفسي في متاهة الدور الثاني. وقع في يدي بالصدفة أكثر من كتاب كنتُ يئستُ من العثور عليه. هناك الكثير من الشعراء التموزيين والستينيين وبعض شعراء السبعينيّات، بل من الدراسات الأدبية الثقيلة التي قامت على أعمالهم فوق طاولة في منتصف إحدى الغرف. لا أثر لسنيّة صالح.
وقفتُ أنظف يدي وملابسي من الغبار بالمناديل المبللة وأنا أتخيّل أن هذه الطاولة المزدحمة بالكتب والتراب مائدة عشاء. ميّزت محمد الماغوط بجسده الضخم، الشاعر البدويّ الذي لا يحب أن يقرأ الفلسفة ويكتب للعاديين والفقراء - كما يحب أن يرى نفسه. الحائط خلفه مليء بالصور التي رسمها فنانون لوجهه. في مواجهته الشاعر الفيلسوف بذاته، أدونيس، محطّم العادي والمألوف ومخرّب اللغة القرشيّة - كما يحب أن يرى نفسه، يمسك بأناقة شوكته وسكينته في احترام واضح لآداب المائدة بينما الناقدة خالدة سعيد تجلس في وقار بجانبه. كان هناك آخرون أقلّ نجوميّة، كم أحب أن أصفهم لولا أن الغرفة ضيقة وحارة وخانقة. بجانب الباب الذي يجب أن يكون قريباً من المطبخ، كانت تجلس سنيّة صالح، لا أعرف كيف كانت تحب أن ترى نفسها، ليس لها صورة عندي لأعرضها، ما أتخيّله من كل ما قرأته عنها لا يزيد على أنها شاعرة كبيرة، ضحيّة، كانت تستحق الكثير من القراء والنقد؛ لكن الأكثر شيوعاً أنها مثلاً الزوجة المتفانية المخلصة للأوّل، وأنها أخت لخالدة سعيد، وأنها أم لبنتين ربما تنامان في الغرفة المجاورة. أستطيع من وقفتي هذه أن أرى يديها فأتذكر ما كتبه الماغوط مرة عنها «حكّت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وبريق المرآة». هو لم يكتب بعد ذلك عن أظافر امرأة أنهكتها الوظيفة المكتبيّة، وتنظيم حياة الزوج وإعطاء الأولوية لشهرته، بل وإعداد هذا العشاء. إنهم يتحدثون في موضوع هام، إنها تقضم أظافرها في صمت متمنية أن تمرّ الزيارة على خير، ألّا تبكي في آخر الليل معركة بين هذه الذوات الكبرى أو فشلها في أن تكون حمامة للسلام الاجتماعيّ.
عندما أتخيّل صوت سنيّة صالح الذي لم أسمعه قَطّ، أنصتُ إلى عديد خافت ومكتوم يتسرّب إليّ من وسط ضجيج يضم ثوريين بهتافاتهم الجهوريّة، محاربين متحمسين للانتصار، أو مكسورين من الهزيمة، غاضبين يصرخون ضد الدولة والديكتاتور والمجتمع واللغة المجدورة، حالمين يريدون تغيير الواقع وتفجير مؤسساته ويؤسسون في نفس اللحظة لعالم يُشبه ما يطمحون إلى تغييره. صوت سنيّة صالح لا يحتلّ أُذن من يُنصت إليه لأنه يُمثل مدرسة شعريّة لها آباء وفيها أُصلاء ومقلدون، ولا لأنه محظوظ بالصمت الذي حوله، بل لأنه صوت فرديّ ومتفرّد وسط مظاهرات شعريّة، يستطيع أن ينجو بنبرته الخاصّة ويقتحمك رغم أنه مُحاط بالأنبياء والأبطال والشهداء والزعماء.
لم يصلني صوت سنيّة صالح في الوقت الذي كنتُ في أشدّ الحاجة إليه، كان يجب أن أقرأها في سنوات التكوين الأولى. عندما كنتُ أتساءل لماذا لا توجد شاعرة عربيّة حديثة أنتمي إليها. لم أسمع بها عندما كنتُ أُفكر ـ ولا أجرؤ على قول ـ إن نازك الملائكة وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي على سبيل المثال شاعرات مهمّات؛ تعود إليْهن لفهم شيء ما عن تطور القصيدة العربيّة، عن إسهام المرأة العربيّة فيها، لمعرفة السقف المنخفض الذي لم تستطع الشاعرة العربيّة أن تزيحه أو قررت بإرادتها أن تستظلّ به. ولكن ليس بينهنّ من تذهب لتبحث عن قصائدها لأنك في حاجة إليها. إنهن شاعرات يُقرأن في المكتب، تستحضرهنّ في الفصل الدراسيّ، دائماً في الظهيرة حيث يكون الأرق بعيداً ومختبئاً في غرفتك إلى أن يحلّ الليل. لم يخبرني أحد أن هناك مَن كتبت في بداياتها قصيدة «جسد السماء» التي فازت بـ«جائزة النهار لأفضل قصيدة نثر» في 1961 حيث تقول: «وها أنا أتدحرجُ كالحصى إلى القاع/ فليكن الليل آخر المطاف».
ما يشغلني في صوت سنيّة صالح ليس فقط فرادته، بل أيضاً، إمكاناته المُهدرة، تلك المناطق المجهولة التي كان ممكناً في حالتها - رغم كونها كاتبة عربيّة بدأتْ في ستينيّات القرن العشرين، ورغم لحظتها التاريخيّة المليئة بأنبياء الشعر - أن تفتحها ولم يحدث. إنني لا أقترح عليها تصوراتي هنا، ليس عندي أيّة اقتراحات على شاعراتنا الأخريات على أيّ حال؛ ولكن هناك ما يستفزني عند قراءة مجموعاتها الشعريّة الأربعة معاً، شعور وكأن هناك كنزاً قد بُدِّد الكثير منه في عُطلات الكتابة ومنعطفات الحياة، بل وعدم ثقة يجعل هيمنة الشعريّات المجاورة لها تغريها على أرضيّتها الجاهزة أحياناً.
يبدو لي أن قصائدها الأخيرة في «ذكر الورد» (1988) هي التطوير الممكن لقصائدها في مجموعتها الأولى «الزمان الضيق» (1964)؛ أقصد عمق الصوت ووضوحه ومدى حفره في الفجيعة الإنسانية التي شغلته طوال رحلته. في «الزمان الضيّق»، تحتلّك الصور لا الأفكار؛ تشم رائحة احتراق، لا تبهرك نار البعث ولا تقابل الفينيقيين في الصفحات، يخبرك صوت القصائد ببساطة: «أنا أسير/ بلا ليل/ وطني ورائي».
في مجموعتيها الثانية والثالثة، «حبر الإعدام» (1970) و«قصائد» (1980)، يمكنك أن تدرك الصوت نفسه وهو يتحمّل بخبرات جديدة، مثل الأمومة وارتباك الحب وهزائمه وخياناته، حيث يوجد ليل طويل في البيوت المهجورة ومطر منفيّ عن سمائه وفصول عظيمة لصيد الأعشاب وأخرى لحرقها وموت ينتظر على الأبواب وضحيّة تقتفي أثره. تجد في المجموعتين بعضاً من أجمل قصائد الشعر العربيّ الحديث من حيث توحّش الخيال وشفافية اللغة جنباً إلى جنب مع قصائد متعثرة في لغتها ومشاع في صورها؛ على سبيل المثال، تبدأ مجموعتها الثالثة بقصيدة «شام، أطلقي سراح الليل». يُدهشنا صوت أم لا يوجد مثله في القصيدة العربيّة حتى اليوم، حيث يكون على الأم أن تلد نفسها أيضاً: «أيتها اللؤلؤة/ نمتِ في جوفي عصوراً/ استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء/ وهدير الدّماء/ حجبتُك طويلاً… طويلاً/ ريثما يُنهي التاريخ حزنه/ ريثما يُنهي المحاربون العظماء حروبَهم/ الجلادون جَلْدَ ضحاياهم/ ريثما يأتي عصرٌ من نور/ فيخرج واحدُنا من جوفِ الآخر
تقرأ في نفس المجموعة الشعريّة قصائد مثل «الحظيرة»، و«خريف الحريّة»، و«الفجر»، «مخصّصات النّسر الميّت»، و «جرذان التاريخ». إنها قصائد تجعلك تتساءل ما الذي أربك أو شتّت أو غيّب الصوت الذي تحبه؟ إنه ليس صوتاً مدعياً ولا مزيفاً مع ذلك، كأنه يشارك أحياناً في مظاهرة جماعيّة حتى يتم الانتباه إليه، أو لمجرد أن يتخلّص من وحدته التي تشبه «وحدة امرئ على أبواب الإعدام». ربما كانت سنيّة صالح نفسها تعي ذلك؛ أليست هي من كتبت: «فأين الهواء العظيم ليحمل الصوت/ المتألّم؟».
لقد صرحتْ صالح قبل مجموعتها الأخيرة «ذكر الورد» بسنوات: «ليس لي أي طموح من أي نوع كان. أنا أعجز من أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه، كما يقول بعض الشعراء، ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ […] إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة». أظن أن «ذكر الورْد» كان الطموح الذي سعت له صالح طوال رحلتها حتى ولو لم تصفه لنا خجلاً منها أو غموضاً منه؛ تحرّر الصوت الشعريّ من التذبذب ومن التعثّر بل ومن بعض الرقة التي وسمته أحياناً، ولم يعد يقيس ثقته في ذاته بحجم الأصوات المجاورة له. فيما قبل «ذكر الورد»، تغيب المدينة بشوارعها وعلاقاتها وضجيجها عن قصيدتها. تبدو الطبيعة بما فيها من ظلال وصراع وعنف وموت وكأنها مجال مناسب لحركة الروح أكثر من الأساطير والرموز والاستلهام التاريخيّ وغيره مما شغل حيّزاً كبيراً في قصيدة المجايلين لها. لكن في «ذكر الورْد» يحلّ الجسد محلّ الطبيعة، يحضر بتاريخه وذاكرته وعتمة رغباته وغضبه الشخصيّ الذي لم يلتفت له من قبل، كما تحضر الطبيعة التي تحرّك فيها والخطر الذي يهدده بالفناء. هناك عنفٌ وبصيرة وتدفّق لا تمسك بها إلا شاعرة كبيرة بحق. هذه هي القصائد التي أردتُ أن أكتب عنها منذ البداية ولكن ربما كان صعباً أن يحدث ذلك قبل أن أكتب ما سبق.
نُشرت هذه المقالة في مُلحق كلمات، الأخبار اللبنانيّة. العدد ٢٦٦٦، السبت ١٥ آب ٢٠١٥