Pages

Saturday, 16 November 2013

عبلة الرويني - لم تُصفق الباب وراءها



 


عبلة الرويني

لم تمارس إيمان مرسال لعبة الأمهات فى إخفاء الوجه عن أطفالهن، ثم كشفه سريعاً، لتعود الضحكة إلى وجوه الأطفال، لم تمارس تلك اللعبة مع أطفالها أبداً، فقبل أكثر من ثلاثين عاماً ماتت أمها، وما زالت تنتظر وجهها أن يظهر مرة أخرى.. تمسك إيمان بالصورة الفوتوغرافية الوحيدة التى تجمعها وأمها، طفلة فى الخامسة (لا تبتسم)، تقف إلى جوار أمها (التى لا تبتسم أيضاً، رغم أنها لم تكن تعرف أنها ستموت بعد ذلك بسبعة وأربعين يوماً، بالضبط) صورة فوتوغرافية هى كل ما تبقى من الأم، هى كل الذاكرة، وكل الشعر (سيكون مضحكاً التفكير أن علاقتى بألعاب الأطفال شكلها غياب أمى، والأنكى الادعاء أن موتها هو سبب وجودى هنا، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، وكأننى أجرب غياباً وهمياً عن كل هؤلاء الذين أريد أن أكون معهم)..

قبل عشر سنوات، غادرت إيمان مرسال مصر، إلى كندا (أستاذة فى إحدى جامعاتها) تزوجت أمريكياً، وأنجبت أبناء أمريكيين، تنقلت من مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى متحف، إلى معرض، إلى مهرجان، ومن (طريق الحرير) شرقاً، إلى (طريق العبيد) جنوباً.. سافرت كى تمشى وحدها أياماً، أو سنوات، لتكتشف بعد كل هذه السنوات، أنه لا جغرافيا بديلة، وأنها تحتاج أكثر، إلى كل هؤلاء الذين تصحو وتنام بدونهم، وأنها سافرت لتجرب غياباً وهمياً عن كل الذين تريد أن تكون معهم.. غادرت إيمان مصر دون أن تصفق الباب وراءها، كما سبق وفعلت (نورا) فى مسرحية أبسن (بيت الدمية)، إيمان تركت الباب مفتوحاً، لأنها ستعود دائماً..
صفقة الباب المدوية التى أطلقتها (نورا) وهى تغادر بيت الزوجية إلى الأبد، تلك الصفقة التى هزت أوروبا كلها فى القرن الـ19، بحثاً عن سؤال المرأة، وجودها وحريتها.. صفقة نورا التى عصفت برومانسية عصرها، واتخذت مثالاً للتمرُّد على البيت والتقاليد، حاسمة العلاقة بين الحقيقة والوهم.. ظلت خارج ذاكرة الشاعرة المصرية، فلم تكن إيمان يوماً تلك الدمية، ولم يكن خروجها مدوياً، ولم تصفق الباب وراءها، بحثاً عن حرية، أو رغبة فى التمرّد على البيت والأهل والتقاليد، خرجت لتمارس الاكتشاف والرغبة فى المعرفة، وتواصل لعبة الأمهات، يختفين، ليظهرن مرة أخرى أكثر حباً والتصاقاً..
ديوان إيمان مرسال الخامس (حتى أتخلى عن فكرة البيوت) الصادر قبل أسابيع عن دارى (شرقيات - التنوير) سردية أقرب إلى السيرة، سيرة على اتساع حركتها، وتنقلاتها بين أزمنة الطفولة وأماكنها، بين وجوه الأهل والأصدقاء، لم تقع فى (النوستالجيا) فاللغة محايدة، خالية من المبالغات العاطفية.. ورغم استخدام السرد، فالشاعرية تحضر بكثافة، مفارقات مدهشة ربما أقل سخرية من قصائد سابقة، لكنها أكثر عذوبة، كسر للمتوقع الجمالى، خروج متواصل، وكثافة فى الحركة منحت الديوان حيوية الإيقاع، وحرية مضاعفة فى التقاط التفاصيل ورؤيتها وإدهاشنا.

جريدة الوطن 31 مارس 2013.