Tuesday 8 April 2014

الصوت في غيْر مكانِه




لنفرض أن الصوت هو خيط من الضوء يمتد بين فم المتكلم وأذن من يسمعه، بين النية وما تؤول إليه من تأويل في ذهن متلقيها. وأن اللكنة ذبذبات ملونة تتواتر حول هذا الخيط ولا تتطابق معه، أنها قد تساعد في تدعيم ضوء الخيط أحياناً كأنها رسالة إضافية لنيته، وأنها قد تقطعه وتعطله أحياناً أخرى. كلمة واحدة تسقط من جملة ملضومة في حبل مضيء كافية لأن يتوتر الخيط ويهتز، تتسع عينا صاحب الأذن وتنشط حاسة البصر لالتقاط الكلمة التي تسقط بفعل اللكنة  قبل أن تصل إلى الأرض. قد تتسع عينا المتكلم أيضاً، قد تحضر أعضاؤه كلها بلغاتها لتساعد في توصيل نيته رغم انقطاعاتها إلى الأذن التي تنتظرها. أظن أنني أفكر بالصوت الفردي هنا لا كمنتج فيزيقي للحبال الصوتية التي يحملها الهواء، ولا كحامل لنية اللغة وهدفها ولا كنقيض للموت، بل كطاقة تولّدها اللكنة لكي تحمل الصوت الفردي واللغة التي ينطقها والنية التي يقصدها. 

طاقة اللكنة تتبع وقتاً / إيقاعاً آخر يخص اللغة الأم، وعندما يحملها الصوت في لغة أجنبية يولد التشوش الذي أتخيله وكأنه محاولة نطق لغتين في نفس اللحظة، واحدة ظاهرة والأخرى مختفية، واحدة تتحرك والأخرى مركونة تحارب ضد الاهمال والترك.  اللكنة ليست أحد أمراض النطق بالضرورة بل هي دفاع اللغة الأم المستميت ضد الفناء؛ منافسة اللغة الأجنبية عبر تخريب العلاقة بين الصوت وإيقاعه، فيُبتر مقطع هنا أو هناك، يتسارع حرف غريب حيث كان يجب أن يتباطأ، يقفز صوت على رأس صوت آخر ويقضم جزءاً من فضائه. التخريب قد يأتي أيضاً من كرم اللغة الأم في التعامل مع الوقت، فتضيف حركاتها لسواكن لغة الأجنبية، فيصبح  street Estreet و cloth clothES .
إذا تخيلنا أن صاحب اللكنة وهو يتلفظها هو فرد في غير مكانه  فلنتخيل معاً أن اللكنة هي صوتٌ في غير مكانه. قد يتدرب صاحب اللكنة على أن ينتمي لمكانه الجديد، قد ينجح في تخبئة لكنته أوفي قمعها طويلاً، ثم تأتي تلك اللحظة التي يخونه فيها التدريب. ليست مصادفة أن لحظات الغضب هي أكثر اللحظات التي تقب فيها اللكنة بكامل بهائها، ربما لأن الغضب ألصق باستنفار الأحبال الصوتية من الرضا، أكثر تهييجاً للذاكرة واستحضاراً للغة الأولى التي تنتقم بممارسة صوتياتها وبإشاعة الفوضى. صاحب اللكنة ليس بالضرورة مهاجراً من لغة إلى أخرى بل قد يكون مهاجراً من لكنة إلى أخرى داخل نفس اللغة؛ عم عوض بواب العمارة التي أسكن فيها في القاهرة يتحدث للسكان بأدب جم، بقاهرية لا غبار عليها، تقفز لكنته الصعيدية بمجرد أن يصرخ في أحد أبنائه أو يتعارك مع أحد بوابي العمارات المجاورة.
**
صوت شخص ما قد يكون أكثر فردية في لغته الأم، يتم التعرف عليه بنبرته الشخصية، بـ "حبّته" و"تضلّعاته" إذا اعتمدنا على رولان بارت[1].  حين يحمل الصوت لغة أخرى تشوّش اللكنة على فرديته، تشير بدأب إلى الصوتيات الجماعية المختبئة للغته الأولى. صوت الـ  H في الانجليزية يصبح أقرب إلى الخاء العربية عندما تتحدث لي ناتالي زميلتي في العمل. إنه صوت الروسية وليس ناتالي فقط. في سنتي الأولى في أمريكا كان صوت حرف الـ P يبدو لي مثل حجر قادر على إسقاط أي كلمة تحتويه من خيط الضوء الذي أقف وراءه. هذا هو الحرف الذي نسميه بالعربية باء ثقيلة، حرف ليس من لغتنا ويكفي الفشل في نطقه لتخمين أن العربية هي لغة المتكلم المركونة في الداخل.
**
عندما تقدمت لوظيفة أستاذ في جامعة ألبيرتا كان عليّ أن أمر بكل ما تستدعيه المنافسة في سوق العمل الأكاديمي من اختبارات: تدريس فصل لطلاب أمام لجنة أكاديمية، مقابلات منفردة مع الأساتذة والطلاب والعميد، ولكن أقسى الاختبارات كان إلقاء محاضرة لمدة 45 دقيقة أمام حشد من الأكاديميين والجمهور الجامعي. لم يكن مضمون ما أريد قوله هو ما يرعبني بل كيف يمكنني أن أقوله بنعومة وبدون الاصطدام بمطبات الكلمات الطويلة، الكلمات ذات السواكن بلا حركة تفصل بينها، الكلمات المفصلية التي يعني سقوطها من التواصل سقوطي في الوصول إلى الوظيفة. بدت اللكنة في تلك اللحظة مثل عاهة نطق يجب التقليل من خسائرها.
البصريّ واصل بن عطاء (80- 131 هـ)؛ الفقيه المعتزلي الفصيح الذي يُشار له بالبنان كان يخطب بلغته الأم، وكان أعداؤه يتنمرون عليه بسبب لثغته؛ بسبب صوت واحد لا يستطيع نطقه كما يجب وهو حرف الراء. عبقرية ابن عطاء اللغوية ألهمته أن يخبيء عاهته بتفادي الكلمات التي بها هذا الحرف، كان عليه أن يستبدل قرب بدنو، أنوار بآلاء، يغفر بيعفو، فراش بمضجع ومطر بغيث.  له خطبة كاملة بدون حرف راء واحد. هذا ما كان عليّ عمله، تفادي الأصوات التي قد تبعثرها اللكنة فلا تصل لأحد. لا أذكر الآن كم من كلمات تم استبدالها لكني أذكر أن أفكاري كانت تتطور وتنتعش بسبب لعبة الاستبدال. بعض الكلمات لم يكن ممكناً استبدالها وأذكر منها كلمة: Architecture، آرك تيكْتْشر، هكذا حاولت أن أراها بحروف عربية، بجسد لغة أليفة حتى أتذكرها. لحظة نطقي بالكلمة في المحاضرة ترجرجتُ، خُيّل إليّ أن مسجداً أموياً بالتحديد ينهار في مكان ما وأن صوت زجاج شبابيكه المتكسرة يخرج مع صوتي.
 **
 لا يختار صاحب اللكنة الكلمات الأكثر دقة في لغته الأجنبية ليعبر عما يريد قوله كما يُفترض أن يفعل في لغته الأم، إن عليه تفادي الكلمات التي رغم دقتها قد تعطل صوته لأن ذبذبات اللكنة قد تقطعها بأكثر من طريقة. اللكنة تختار لصاحبها كلمات مناسبة بتفادي كلمات أخرى قد تكون أكثر دقة ولكن صوتياتها مستحيلة.  يمكننا تخيل أن غياب الدقة قد يشوش مضمون الرسالة المتلفظ بها عنما تصل لأذن من عليه تأويلها. يمكنها أن تعطل وصول الرسالة ربما، لكن الأكثر جمالاً هو أن نتخيل تلك اللكنة وهي تغير مضمون الرسالة أو تحول مساره، تستبدل رسالة باردة برسالة أكثر حناناً، أو جملة متحفظة بجملة أكثر جرأة.  بعد وصول رسالة لم يقصدها صاحب اللكنة قد يُفاجأ بجمالها، حتى ولو لم يقصدها فإنها وُلدت وسيكون محبطاً للأذن التي تلقتها أن يصححها طبقاً لنية هو وحده من يعرفها. يكون عليه أن يستمر مع خطأها فيراوده إحساس أشبه بـ "الشطح". اللغة ليست وحدها عاجزة بل الصوت أيضاً عاجز، اللكنة تجعلك تتداعى مع الكلمات كي تنتصر على عجز صوتك مثل متصوف، تأخذك لمسارات ورسائل وأحوال لم تظن أنها موجودة إلا بفضل لعبة الاختيار والتفادي اللانهائية.
**
الجسد هو دعامة بصرية يعتمد عليها خيط الصوت في الوصول بلكنته وبالرغم منها. غياب الجسد يجعل الخيط ضعيفاً وعرضة للتقطع والضياع. كثيراً ما يكون سهلاً أن أفهم شخصاً ما عندما نتبادل حديثاً وجهاً لوجه، على الهاتف تتضخم الانقطاعات ويتم التحجج بأن سماعة الهاتف قديمة وسيئة من أجل أن يكرر المتحدث جملته. الأمان الذي يشعه الجسد الذي نتحدث إليه يهديء من روع الصوت، يساعده ليس على التخلص نسبياً من لكنته بل على تجاهلها. عندما تتوقع أن الأذن التي تتحدث إليها لن تفهمك قد ترفع صوتك أكثر لتؤكد حضورك، لتصبح مرئياً، لتشغل أكبر حيز من الفراغ يمكن لصوتك أن يحتله. ولكن قد تخفض صوتك أيضاً وكأنك تريد أن تختفي من مشهد محكوم عليك فيه بالفشل. في الحالتين تتحكم اللكنة في الصوت وتهيمن على درجته.
 عندما كنت أذهب مع جدتي من القرية إلى مدينة المنصورة أوالقاهرة لزيارة مريض في مستشفى أو أقارب متمدينين، كانت تبدو لي كشخصٍ آخر، ملابسها كانت تبدو ضيقة لأنها ملابس الخروج المركونة في الدولاب والتي لم تلبسها منذ زمن، الذهب أيضاً الذي لم تكن ترتديه أثناء حياتها اليومية بين الخبيز والطبيخ كان يغير شكل وجهها ورقبتها، خشونة أصابعها كانت تلفت نظري عندما تزينها بالخواتم. مؤكد أن خروجها من ترف ممارسة سلطاتها على أفراد أسرة كبيرة داخل بيتها إلى مجرد زائرة في مدينة واسعة كان له دور في شعوري باختلافها عن ما أعرفه عنها، ولكن اللكنة أيضاً كانت تلعب دورها في ذلك. أتخيلها الآن تقول شيئاً من قبيل "محمد أبو اسماعيين اتجوّز نوها". لابد أن صوت "اسماعين" بدلاً من "اسماعيل" و"نوها" بدلاً من "نُهى" كان يشككني في سلطتها المطلقة ويشعرني بتوتر لم أكن أدري له سبباً محدد.
لا تصبح اللكنة مصدراً للشعور بالعار ولا تجعل صاحبها يتوتر إلا إذا كانت دلالة على وضعيته الأقل من وضعية الأذن التي يتوجه إليها بصوته. ما يحدد الوضعية يكون عادة أكبر من حبل الصوت ونيته، قد تكون علاقة المركز بالأطراف، علاقة المستعمر بلكنة سكان مستعمراته وهم يتحدثون لغته، التعليم بالأمية، المدينة بالريف، الطبقات المحظوظة بالطبقات الأقل حظاً. لا يمكنني أن أتخيل صاحب لكنة اكسفوردية يشعر بالعار وهو يتحدث مع صاحب إحدى لكنات الطبقة العاملة في انجلترا، ولا باريسيّ يتوتر وهو يسمع لكنته جنباً إلى جنب مع لكنة مهاجر من السنغال. اللكنة هي مجاز شفاف عن علاقات القوة.
أحياناً تحاول اللكنة الأكثر دونية في علاقات القوة هذه أن تتخلص من عارها بأن تحتمي بغربتها وغرابتها، بأن تكون "أكزوتيك". أعتقد أنني أقوم بذلك في بعض الأحيان لكني لا أنتبه لذلك إلا عندما أرى مثقفات يقمن به أثناء إلقاء محاضراتهن في المؤتمرات الأكاديمية أو كاتبات من أماكن أخرى يناقشن أعمالهن مع جمهور يتحدث اللغة الأكثر قوة- لغة المركز. لي صديق مصريّ كان له حظ الحصول على تعليم إنجليزي منذ الحضانة وقضى سنوات الجامعة في إحدى جامعات انجلترا، هذا الصديق قال لي مرة مغازلاً أو مجاملاً: "أحب انجليزيتك". فاجأني رد فعلي الغاضب على جملته؛ لا أحد يحب أن يكون "اكزوتيك" في بيته، شعرت أن صديقي يمارس نوعاً ما من التفوق أمامي، ذلك أنه لكنته تجعله أقرب إلى الانجليزيّ "الأصليّ" الذي يمكن أن يدرك أو يحب الأكزوتيك في التحدث بلغته.
**
 بعد كل هذه السنوات من التحدث والتدريس والكتابة بلغة أجنبية، من الصراع مع اللكنة، يفاجئني أحياناً شعور بأن صوتي بالعربية مختلف عن صوتي بالانجليزية، ليس أفضل أو أسوأ، فقط مختلف. أتذكر مرة دهشتي حين استمعت بالصدفة لرسالة مسجلة كنت تركتها على تليفون بيت صديقة استوضح منها العنوان الذي تهت كالعادة عنه. يعجبني أن أؤوّل أجامبن الذي رأى أنه لا يمكن التفرقة بين النطق والخطاب في الصوت الذي يلفظهما[2]. صوت تائه متوتر، صوت بلكنة؛  لا يمكن إلا أن يكون خطابه سؤال عن طريق للوصول أثناء رحلة من التهتهة والتوهان.







[1] - Barthes, R "The Grain of the Voice", Image, Music, Text, translated S Heath, Hill and Wang, New York, 1977.

[2] - Agamben, G "Language and Death: The Place of Negativity", Theory of Literature Volume 78 


نُشرت هذه المقالة في كتاب "الأذن الوسطى" الذي ضم نصوصاً لمحمد عبد النبي، إيمان مرسال، ياسر عبد اللطيف، هاني درويش، وائل عشري، دعاء علي وهيثم الورداني. قام بتحقيق الكتاب مها مأمون وهيثم الورداني وصدر عن مؤسسة الشارقة للفنون 2011.