Friday 21 October 2011

عن جغرافيا بديلة - ماجد المذحجي

عيـن ترصـد التفاصـيل والذكـريات بتمـهل
ماجد المذحجي



      الانتحاء جانباً، واتخاذ موقع ملائم لتركيز عين متمهلة ترغب بمراقبة " حياة تمر من بعيد "، لا يبدو كافياً كمدخل لتوصيف، أو لتكثيف مزاج عمل كـ ( جغرافيا بديلة )، المجموعة الشعرية الأخيرة لـ " إيمان مرسال "، الشاعرة المصرية المقيمة في كندا، والصادر في القاهرة عن دار شرقيات، في الـ 2006م. بل هو انتخاب ذاتي ( لاقى هوى شخصي شديد ) لأحد الأنشطة التي تمارسها نصوص المجموعة، والتي تتجاور مع أنشطة أخرى، تتفحص عبرها " الشاعرة " ذاتها وهي تنشئ " جغرافيا بديلة "، تسوغ لها أن تتعامل بندية بالغة، وباستقلال مفترض ومريح، مع ارث الذاكرة المتداخلة بعمق مع  خلفيتها غير المحايدة، والتي تنتظم بمجملها في جغرافيا ممتدة، حيث صياغات الانفعال الأول، والوعي الأول، والارتباك الأول،  ممتدة بإصرار غير ثقيل حتى الراهن أيضاً من هذه الانفعالات والوعي والارتباك!!. باعتبار كل ذلك مسرح للحياة التي تترهل في الداخل بصمت، مكونه فرص شعرية مهملة، لا يُمكن إدراكها إلا بنظر متمهل، ومن غير توقعات مثقلة بالمحاكمات، أو تسجيل الانتصارات، لان ما تُخلفه الحياة في تدافعها من إرباكات، ومواقف، وذكريات. لا يُمكن إدراكه، أو تأمله، وتحويله لاحقاً إلى " حكاية شعرية " مقلمه، وأنيقة، وعميقة، إلا من موقع مرتفع قليلاً قد يكون " جغرافيا بديلة "!!. 
ذات الجغرافيا التي لا يُمكن تركها مُعرضة لأي اهتزازات، أو مفاجآت تُربك هذا الاستقرار المدهش، الذي مكنها من قذف كل هذه المتعة اللغوية والذهنية خلف غلاف أنيق لم يُكثر من التقولات والادعاءات البصرية ( تصميم غلاف المجموعة هو إهداء للشاعرة من المصممة الألمانية تيجر شتانجل )، بل اطمئن إلى السلام الذي يلف المتن الذي يُفصح عنه، وتناغم مع الذكاء والخفة الشديدة التي تميزه، و ركن إلى بعثرة خارطة العالم كلها على ألوان مُسترخية ومُطمئنة، بمزاج طفل لا تتزاحم في جمجمته أي توقعات، عن ما تُحدثه أفعال كهذه من مُسوغات لبشر يتراصون خلف بعض بتحفز وانتظار، لابتكار المآسي الشخصية والعامة.. والاحتفال بسردها لاحقاً!!.
إنها تعمل ضمناً في نص ( لماذا جاءت )، أول نص في المجموعة، على التأمل في ما يبنيه الغريب من أساطير حول ذاته في الأمكنة الجديدة، تتعلق بتأبيد الحنين، وتعميق فكرة الولاء، وهشاشته التي تُُفصح عنها المركزية الشديدة لأولئك البعيدين الذين ينشغل دوماً بإثبات ولائه لهم، وكونه لم يتغير أبداً، بأن ( يكرر " الحمد الله " كثيراً حتى يطمئنوا على إيمانه ). وهي تتفحص هذا الوافد إلى ارض جديدة، بغربته، وتلفته، وذعره المزمن. عبر تسليط الضوء على القفص السري الذي ينغلق ضمنه، وعبر ملامسات أنيقة لهشاشة فكرة الانتماء، والاقتران الأزلي بضرورة العودة، ومحاولة حراستها بفكرة مثل العودة للوطن ولو ميتاً!!، فالمهاجرين ( يحلمون بالعودة عندما يصبحون جثثاً )، وحين لا يستطيعون، يعلقون هذه الفكرة كالجرس في أعناق أولادهم، ويلحون عليهم ( يجب ان تحملونا إلى هناك - هكذا يتركون الوصايا في أعناق أولادهم -  )!!. إنها تتهكم على إصرار هزلي على فكرة الاطمئنان لنهاية سعيدة، ولموت مريح في الأخير، ربما ستجعل منهم أجمل وأكثر اطمئناناً، وهو شأن لن يتم إلا بالعودة إلى التربة الأولى ولو ميتين!!. رغم أن الموت لا يعبئ بترك الناس ممدين وعاريين في تربة غريبة، أو تربة وطنية، و( كأن الموت هوية ناقصة لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة )!!. إن الجملة المفتاحية في هذا النص، والأولى في المجموعة، مُعلقة إلى سؤال مباشر يكشف عن رغبتها في تفحص موقعها النفسي و " المكاني " الجديد ( في هذا النص، وفي المجموعة ضمناً، مع استبطان الوافدين إجمالاً، كما ستكشف الأنشطة الأخرى التي ستنهض بها النصوص، وأن كانت لا تختصر صوتهم عبرها، وإنما تستعير ارتباكهم وهشاشتهم لتضيء علاقات نفسية و " معرفية " مُهملة، وصور شعرية مركونة جانباً، استطاعت استثمارها بلغة أنيقة فعلاً ) ضمن إدراكها للحمولة الثقيلة للهوية الملتصقة بها قسراً ( لماذا جاءت إلى البلاد الجديدة؟ هذه المومياء، موضوع الفُرجة ). إن هذا الافتتاح ألتساؤلي، يؤسس لبناء إدراك لاحق بالمكان الجديد، والنفسية المختلفة، ضمن مزاج مقارنه حذق وخفيف مع المكان الأساس، الذي قدمت منه، مع الاعتناء بشكل رئيسي بالأفراد في المكان، وبكيف يعيش الناس هنا وهناك، لا بالمكان لذاته!؟ ( هنا أيضاً أشجار خضراء تقف تحت ضغط الثلج، وأنهارٌ لا يتعانق بجانبها عشاقٌ خلسة، بل يجري بموازاتها رياضيون مع كلابهم في صباح الأحد ). إن هذا الوافد والغريب الهش، الذي سيظل مُعلق دوماً إلى أمنيات أزلية بالعودة، والغارق بإصرار في وحل الذكريات، هو موضوع تشريحها.. وغضبها النادر أيضاً ( لماذا لم ينسوا أنهم من هناك؟ الغرباءُ الفَشَلةُ )، وتهزئ من محاولات سطحية باهته للامتزاج بالمكان الجديد ( يدربون عضلات أفواهم على التخلص من اللكنة ) هذا ما يحاولونه فقط!، وهي محاولات تكشف هشاشتهم، وتفضحهم في الانفعال الذي يعيدهم بقسوة إلى جذورهم البدائية ( اللكنة هي المرض الوراثي الشفاف الذي يفضحهم، يقفز عندما يغضبون فينسون كيف يضعون أحزانهم في لغةٍ أجنبيةٍ ). إنهم لا " يضعون " أحزانهم في المكان الجديد، في اللغة الجديدة، حتى يصبحون جزء منها، و جزء من شراكه متينة في الهوية الجديدة بشكل حقيقي. إنها أحزان مُعلقه في الهواء، ومازالت تؤشر كالبوصلة نحو الهوية والانتماء الأول بإصرار!!. إنها تستخدم فعل " يضعون "، بإشارة واضحة إلى أن الاتصال بالمكان الجديد، يجب أن يكون فعل واعي تماماً، لان المقص الذي يقطع صلتهم به هي عواطفهم الغبية.. والمتقدة باستمرار!!. إذاً، فان التفضيل العقلاني، غير المرتهن لولع عاطفي، هو ما سيبني انتماء جديد، وهوية بديلة، كما يستبطنه هذا التفضيل لفعل ( يضعون ) تحديداً عن غيره من الأفعال، وموضعته في هذا المقطع من النص!!؟.
( في قارةٍ أخرى، تركت أعداء مساكين، يجب أن تخجل من نفسك عندما تتذكرهم.. لا شيء يغضبك الآن، ) هذا بالضبط ما ينشئه المكان الجديد، مساحة داخلية واسعة، بالمعنى النفسي ضمناً، يصعب جعلها ضيقه ومتوترة، ويجعل من المسافة ذاتها مبرراً للتسامح تجاه كل البشر، وتجاه الأشياء التي كانت تُثير التذمر هناك في " الوطن "!! ( من الصعب أن تقابل شيوعياً كلاسيكياً هنا، حتى إنهم يضعون ساعةً في المكاتب العمومية بدلاً من صورة الرئيس. )!!. لا توجد إذاً مبررات للغضب، كل شيء يسلبك هنا ما كنت تغضب منه هناك ( لا شيء جدير بأن تتمرد عليه. أنت مرْضيٌ وميتٌ والحياة من حولك تبدو مثل يدٍ رحيمةٍ أضاءت الغرفةَ لعجوزٍ أعمى ليتمكن من قراءة الماضي. ). إن كل هذا الانتظام، هذه الحياة الجديدة، الأشياء التي لا تبعث على التوتر، مُربك فعلاً وبشكل حقيقي لـ " ذات " تعودت أن تنفعل لمعطيات شائعة بكثرة هناك.. فالناس هنا ينفعلون لأسباب أخرى نجهلها، أو لأننا لم نُكون تفضيل نفسي، أو معرفي، أو حقوقي جديد، تجعلنا نختارها كأولوية ومنطقة اهتمام ننفعل لأجلها تبعاً لما تتعرض له، وهو ما يجعلها - تبعاً لعدم قيامها بانتخاب تفضيلات مختلفة عن السابقة يستدعيها الموقع الجديد، ولعدم انسجامها الكامل والفعلي من الأنساق المعرفية والنفسية واليومية الجديدة، كما يقول منطوق النص الظاهر طبعاً، لا إسقاطاً مباشراً على الشاعرة ذاتها، وهو إسقاط سيبدو فجاً لو أعتسف سياق كتابتي وتأويلي فهم المتلقي باتجاهه - كعجوز أعمى يعيش سلامه الأخير ومنشغل تماماً بـ " قراءة الماضي ".. ذلك الذي سيكون موضوع نص أخر وجميل بالفعل من نصوص المجموعة؟؟.
 في ( قراءة الماضي )، يتم تنشيط وعي بالذاكرة المنسية،  أو ربما المتروكة جانباً في انشغالات المكان الجديد، حيث ( ستجلسُ في مكتبها في سَمت الأستاذة )!. إنه وعي أكثر حرية الآن، لأنه متخفف من قيود الذاكرة، كون موقع النشاط الذي أنشئت منه مكوناتها صار بعيداً، أو لان العودة إليه صارت مسنودة بـ " ذهنية مختلفة "، و" نظر مختلف " للأمور. وبالتالي سيتم ترتيب إدراك مختلف لماهي عليه، ولموقع الأطراف الأساسين فيها. إن عبئها أقل ربما، فـ ( الذاكرة؛ موضوعٌ مناسبٌ لتغطية الرعشة التي مرت فوق كوبين من القهوة ).. ربما!!؟. إنه وعي بالذاكرة يستقل عنها، رغم " الارتعاش " لها. ينظر إليها من موقع أعلى قليلاً، ويشتغل بشكل ما ضمن مزاج " سينمائي "، لا يتم فيه تثبيت المشاهد، بل جعلها تمر ببطء، وضمن احتواء كامل لا يُهمل التفاصيل، وما تُشير له ( كان الروائيُ الشابُ قد ترك الشاعرةَ الشابةَ مدعية النوم     أرادت أن تثبِّتَ لحظةَ الوداع وهي عارية تحت ملاءة شفافة    وألا تلتفت    قررتْ أن تظل هكذا حتى يعود من تجربة الغرب    مدعيةً النوم... عاريةً... وتحت ملاءةٍ شفافةٍ ). رغم ذلك، تقر في نفس المتن انه لا يمكن خلق مسافة واحده، ومتجهمة، من تفاصيل الذاكرة!؟. إن اتخاذ موقع متعالي أثناء تفحصها وسردها، لا يرتب " انفصال عاطفي " عنها، بل قد يكون أيضاً مبرر ضمني لترتيب سيناريو لما لم يُقال حين حدثت، أو ما نُريد أن نُلحقه بها حين نريد التخلص منها.. ربما ( فكرتْ انه قد يتعلم هناك أن يبطئ من خطواته.. أنها تستطيع عندما يعود أن تمشي بجانبهِ دون أن تلهثَ )!!. سيكون عليها بعد ذلك أن تصرح بكل شيء، بالتباسه العاطفي والنفسي، متخففة من فكرة كون ( قراءة الماضي ) ليس سوى فار تجارب ممد على منضدة تشريح، نُجرب عليه - بحيادية كاملة - مباضع " الوعي الجديد "، أو فرصة" القراءة الجديدة " الأكثر حرية وشفافية، والأقل مسؤولية - ربما - بالمعنى " الأخلاقي " و " والعاطفي "
(  لماذا لم اكتب عنك قبل ذلك؟ لأني لم أحبُّكَ أبداً، لهذا لا أصدِّق موتَك؟ لأني أحبُّكَ وكان عادلاً أن تموت؟ لأنك لا تستحقّ رثائي فقد كنت ألهثُ عندما نمشي معاً؟ لأني لا أستحقّ أن أرثيك ما دمت حيّة؟ لأن عازفَ البيانو في الغرفةِ العلويةِ يضغطُ على الأصابع السوداء؟ لأنك حاقدٌ عليّ؟ لأني أريدُ أن أخونك مع الطالب؟ لأني غاضبة؟ لأن كليْنا ميت بينما الذاكرةُ عاريةٌ تحت مُلاءة شفافة؟ لأن طالب الأدب المقارن يجب أن يموتَ أولاً؟ لأن صوتَك يعيش في جسدٍ آخر؟ لأنني لم أَعُد بعد من تجربة الغرب؟ ). 
أوردت هذا المقطع الطويل والجميل، بنبرته الصوتية العالية والواضحة، لأنه يُفصح بشكل ما عن موقعين، عاطفي ونفسي، تنازعا سرد أحدى فقرات " الموقع الجديد " من الذاكرة ، والذي أراد لتدوين النص أن يكون محايداً تجاهها!؟. لا يمكن تسمية ذلك بالفشل، وكم يبدو غبياً وفجاً استخدام تعبير " فشل "، أثناء قراءة نصوص لا تحترم الاستخدام السهل والسطحي للكلمات أبداً، بقدر ما هي " نزاعات " في الوعي، و مزاج النظر، والسرد، بين " تجربة الوطن "، و " تجربة الغرب " ( لأنني لم أَعُد بعد من تجربة الغرب؟ ). أو ربما فان المسألة هي رغبة ضمنية في الكشف عن التناقضات، والارتباكات، التي يمكن أن يقع بها الفرد أمام الذاكرة، في أي وضع كان يحاول أن يُرتبه لقراءتها، والتي تُفصح عن هشاشته ضمن أي وعي كان يعمل ضمنه!!؟؟.

عن اللغة وما تُخفيه.. أو ربما عن مشاهدتها عارية، ومرتبكة، وأنيقة...
 لا تقف إيمان في كافة نصوص المجموعة، في موقع المشدوهة لفكرة " المهاجر "، وتداعيات الاغتراب فقط!؟. بل يتسع " نظرها "، ليتفحص علاقات اللغة ذاتها، حين تستمر بإنتاج معاني تم التلاعب بها، وتسريب انحيازات مُسبقة إليها، خصوصاً حين تتصل بالمرء ذاته، فتعمل لذلك على الاحتجاج عليها، بنبره هادئة وواضحة تماماً، وتنحاز، أو تُعيد الاعتبار، إلى ما يُمكن أن يكون شبيهاً بما تعنيه، لا إلى ما يُراد له أن يتقول عنها ( يقول الطبيبُ أنت " حامل "      تقولين لا أنا حُبلى     ليس لأن الصفة تنقصها " تاء التأنيث "      ليس لأن اللغةَ العربيةَ غيرُ عادلةٍ     لكن لأن " حُبلى " هي الكلمة التي تجعلك ممتلئة بنفسك     أنتِ حُبلى إذن. ). إنه موقع من اللغة، لا يميل للاستسلام للتزييف الذي تمارسه ضمناً، أو يُقر بسهولة ما تستبطنه ضمناً من أحكام، ومواقف متحيزة. بل يعمل على التفكير بها، والنفاذ إلى عمق مقولاتها. إن هذا الموقف ينسحب على أدائها الشعري بشكل عام وواضح، فهي تعمل في اشتغالها الشعري، على العبث الذكي، والمتمكن باللغة " المستقرة "، و " الراكدة "، تلك التي بليت من الاستخدام المتكرر، في وظائف وتعبيرات ثابتة. إنه فعل واعي، ولكن ( الأمرُ لا يخلو من نوايا أدبيّة ) وهو ( مثلُ كَشْطِ الصدأ عن كلمة " غرام " نفسها     وغسْل كلماتٍ مثلِ " هَجْر "، " وصال "، " ضَنا "   من اللعاب الذي بلّلها أثناء الغناء. ). 
إنه موقف معرفي بشكل ضمني، ينحو باتجاه فهم جذور " الكلام "، و " الكلمات "، يتفحص ما تُحدثه بنا، عبر التفكير بصوت عالي وواضح، و بسرد غير خجل، بجوهر وظائفها، فمثلاً ( ينجح الغرامُ في جعْلنا أصلاءَ وأنانيين،    أنانيين بأصالة وأصلاءَ في أنانيّتنا... الخ     ولاشيء يكفي     حتى ليبدو ذلك الذي قال أن القناعةَ كنزٌ لا يفْنى     وكأنّه ثبَّت الحواسَ في درجة الصفر     ماشياً صوب الصحراءِ     وهو يصفِّر بلحنٍ يشبه: أنا أنت وأنت أنا ). 
إذاً، لا تعمل إيمان مرسال في نصوص هذه المجموعة - والمجموعات السابقة أيضاً - على العمل اللغة باطمئنان " بائس "، وضمن فهم، ووعي " كسول " بعلاقاتها، ووظائفها، ومقولاتها. بل هي تنشئ " انتباه " عالي تجاه هذه اللغة، وتفتت المقولات المكررة والمباشرة للكلمات، لتعمل على إنشاء مقولتها الشخصية فيها، وتعيد توظيفها في سياقات، وتراكيب نصية مليئة بالذكاء الشعري واللغوي، الذي يعتمد أيضاً على إحساس عالي ويقظ، بالإمكانيات المهدرة لهذه الكلمات، والتي يُمكن إيجادها، وإعادة استثمارها، عبر " تفحص "، و" تفعيل " الكلمات ذاتها، و عبر إدخالها في وظائف جديدة، تنشط صور، وأفكار، وعلاقات مهملة، وبالتالي تعيد بناء تعريفات جديدة لها، مناهضة للاستخدام العام، وموصولة بالفرد الذي يستخدمها فقط، دون أن تجبره على أن يستعير صوت الجماعة، وتحيزاتها، التي كانت مُضمنه فيها، لكي يقول ما يريده هو، بشكل يُفصح عن الاستلاب الهائل لصوت الفرد، الذي توقعه به الكلمات، حين يستخدمها بكسل، وباطمئنان غبي يركن فيه لماهي عليه.
 في مجموعة نصوص تم ضمها تحت عنوان رئيسي، بعنوان ( شبابيك المصحّة )، مع عنونة فرعية لكل موضوع مستقل ضمنها، تعمل إيمان  على خلق تحيز لمجال أو مزاج لغوي حر، في إطار " شق " من المجموعة ذاتها، يميل في مجمله إلى العبث، و إلى تشتيت أي " فهوم " مباشرة  وأولية - من تلك النوع الغبي والسطحي -  يُمكن أن تُستخلص منها، مع ضخ كثيف لإحساس عالي بالتشوش والحزن في اغلبها، تأسيساً في كل ذلك على كونها نصوص " مصحة "، تنتمي إلى ذات الارتباك، وعدم الوضوح، والتطرف اللغوي، والنفسي، الذي يُميز نزلائها، والذي يبدوا كل نص فيها كأنه تسجيل لحلم أو " مشافهة " أحدهم. ذلك الـ " أحدهم " الذي قد يكون " هي " تماماً، بمشاعر وذكريات سرية مشوشة، في حالات لا واعية متعددة، تُجاهد لأن تدون نفسها على بياض أعمى، لا يُفترض به أن يستفسر عن ما تقوله، أو يُدينها لذلك!!. نص ( سُلّم إلى القمر )، يبدو أنموذجاً جيداً لهذا التشوش والحزن، بصوره " سريالية " مقتضبة، تم بنائها ضمن خلفية نفسية مُرتبكة، إن صح بالطبع استخدام كلمة مثل " سريالية "، كتوصيف ذو وظيفة إجرائية، في سياق التأويل الذي أمارسه على النص ( أفهمُ أن تبتلعَ الخلفيةُ الخضراءُ الأرضَ والجدرانَ      أن يُثبَّت السلّم على فراغٍ أخضر      حيث تبدو أيّة شجاعةٍ في الصعود      قبولاً بأن لاشيء يحمي من التهشُّم      لكن ماذا يعمل قمرُ " جورجيا أوكييف " في لوحتها؟      قمرٌ بلا معنى      إنه حتى لا يصلُح نافذةً على حديقةِ المصحة. ). 
أما نص ( أشباح )، فهو يُنصف الحزن السري، وقسوة الأشواق، والرغبات، والأحلام. يتلصص على امرأة تملك ما يكفي من التحريض لان تجابه المعايير العامة، في السلوك والتصرف، وتعيش ارتباكها وحزنها بعبث وحرية كاملين، ضمن تدوين نصي يبدو كمقطع سينمائي، مشغول بنفس المزاج الذي تُصنع به أفلام تنحاز بقوة نحو " تصوير "، و" التقاط " أحلام ورغبات الأفراد، وهي مُعرضة بقسوة للهواء، والرغبة بالاكتمال. إنه نص عاري وجارح، يتضمن تهكماً شديداً على الضعف، ذلك الذي ينتابنا أمام أي مشهد عام، ومفتوح أمام الأخريين ( حيث لا يَجْرؤ على الغناءِ في القاهرة إلا المجانين )، وإنصاتاً شديداً للغرائز، والرغبات المفاجئة، وحزناً نبيلاً منها، يأكلنا حين لا ندرك ماذا كنا نشتهي منها في تلك اللحظة، و في ذلك الاندفاع ( نزلتُ في محطةٍ لا أعرفُها واشتريتُ فستاناً مكشوفَ الظهر، وكتبتُ في بارٍ سبع رسائلَ غراميةٍ لشخصٍ أكرهه، ثم خلعتُ حذائي مقلّدةً بطلات أفلام الأبيض والأسود الهاربات من الماضي، وأتذكرني الآن بكارتٍ للتليفون الدوليّ بين أسناني؛ أطلبُ الرقم الخطأ بآخر قروشٍ معي وأبكي، ولكني لا أذكرُ من هو الآخر الذي أطلب رقمه صحيحاً وهذا ما يُحزنني بعد كل هذه السنوات. ).
إن إيمان مرسال، في هذه النصوص المنضوية تحت هذا العنوان الفرعي ( شبابيك المصحة )، تحاول أن تفلت من سيطرة ( الاغتراب )، و( الذاكرة ) وتداعياتهما، على فضاء المجموعة، وبالتالي هي تُفصح كما اعتقد، عن نفورها من إنتاج فرز غبي يكتفي بتصنيف تعبيرها الشعري في هذه المجموعة، في خانة " حنين المغترب " الساذجة، وهي الخانة التي تُعاديها ضمناً في بعض النصوص كما أسلفت سابقاً. ولذلك تحاول الإفلات من هذه السيطرة الضمنية، أو التصنيف، لتشكل هذا الانطباع الأولي لدى المتلقي، وسيطرته عليه، ضمن ذات الفكرة، وبالتالي سيتم حرف انتباهه أثناء عملية قراءة المجموعة، نحو التفتيش عن " براهين "، تتحقق عبرها " صدقيه " كاملة لهذا الانطباع، والذي يتكون ضمنياً لدية، من تلقيه العياني المباشر، للدلالة الأولية التي تنتجها العتبة الأولى في المجموعة، أي عنوانها ( جغرافيا بديلة )، وهو التلقي الذي يتعزز بنفس الانطباع، حين يتم تلمس مزاج النصوص الأولى أيضاً ( لماذا جاءتْ )، و ( يهدمون بيت أهلي ) و ( قراءة الماضي ). هذا السعي للتفلت من هذا الاحتكار، أو التصنيف، الذي يعتمد على السطوة الدلالية لعنوان المجموعة، ولمزاج النصوص الأولى، يتضح أيضاً -  بالإضافة إلى ما سبق ذكره - في نصوص أخرى، مثل ( الغرام )، و ( دكَّانُ خرائط )، و( الحرب )، و 
( الدولة ) وغيرها من النصوص، التي تشتبك معها بذكاء وخفة ممتعة، عبر تأملات عميقة ونابهة، بـ تفاصيل، وأمكنة، وبشر، وأفكار، وأمزجة من خارج موقع " المهاجرة "، أو " الغريبة " بالطبع، متجهة هنا نحو موقع جديد، تتحول فيه إلى عين متكئة على رصيف مقابل للحدث، أو الفكرة، التي تستبطنها في النص، مُفككه  هذه " الأحداث "، أو " الأفكار "،  قيد النظر، إلى عناصرها الأولية، وعبر سردية شعرية، تُعري مقولتها السرية، وتكشف عن انطوائها على رمزيات ثقافية، ونفسية، شديدة الدلالة..

http://magedpress.blogspot.com/2008/01/blog-post_21.html

عن جغرافيا بديلة - عناية جابر






 

لغات مختلفة لجرح واحد

عناية جابر
السفير 17/10/2006








بين الشاعرة المصرية إيمان مرسال وبين قصيدة النثر اتفاق أكيد لا ينبع من تخطيط الشاعرة وحنكتها في حياكة القصيدة، بل من استخفاف بذلك التخطيط وتلك الحنكة. عند مرسال تلك اللامبالاة الفعلية بما اصطلح على ما وصلته قصيدة النثر الآن، حداثويتها او سوى ذلك من تأطير للشعر كشرط للإعلان عنه وتوصيفه، ووسيلة لاحتضان القول. جملتها غفلة عن التصنيفات الجاهزة، لا تتعمد الكتابة تحت عناوينها، فالأطر والتوصيفات لا تخدع شاعرة حقيقية، أعني ما يهم هو جملتها البراقة والحيوية والمؤثرة.

 
في "جغرافيا بديلة" صادر عن "شرقيات" ثمة مكان ما تنشده الشاعرة، ليس هنا ولا هناك. لا القاهرة ولا كندا. لكنه الوحيد الذي يمكن لعشاق الشعر ان يذهبوا إليه في أمان تام. تداعب مرسال قصيدتها، تنظر في البداية الى حياتها بقوة، ثم بسلاسة، مداعبة الماضي والحاضر بنظر حسير يتعرف حياته باللمس، بالكتابة والقصيدة. لا تريد الشاعرة لقصيدتها ملاحظة ثاقبة للأمور، فهي تلاحظ بلطف، ولا تبدي كثير الانفعال الشعوري، كأنما ما مر قد عاشته، وكأنها خبرت حياتها الحالية في حياة سابقة، وتعرف بالتالي تفاصيلها، فلا يأس ولا دهشة حيال المشاهد، بل تشابك حنون مع الحياة، بأنوثة لا تفلح في مداراتها.
منذ "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" و"المشي أطول وقت ممكن" تبدو قصيدة إيمان مرسال هانئة في جوهر الشعر. وسواء أحببنا اكثر دواوينها السابقة، أم هذا الذي بين أيدينا، فعندها ذلك الميل في دواوينها كافة الى الخروج على التقنيات اللفظية، فجملتها تنشد ابدا رؤيتها الخاصة الى التعبير، ونجده بسيطا وجميلا وجوانيا، ومتحدرا بكامل قوته من بديهية الحياة نفسها مغفلا المشاهد ذات الطبيعة المقفلة التي لا تبرز هويتها للقارئ.
الوضوح
جملة الشاعرة مرسال مفصولة بالقدر الكافي عن الغموض، ما يجعلها قادرة على الاستغناء عن الاشارات الدالة أو الرمزية أو المحسنة إذا جاز التعبير:
لا حاجة للخوف
الزمن لن يفعل شيئا على الاطلاق
لن يجعل لشجاعتك ثقلا يأخذك لأسفل
الزمن ليس مهماً
إنه مجرد زمن.
شُبهة الفلسفة الى حد، التي تكتنف <جغرافيا بديلة> مجموعة إيمان مرسال الصادرة حديثا، بعد ان كانت قدمت أعمالها الشعرية التي ذكرنا كاشفة عن سخرية خفيفة بالواقع وبالحب وبالعلاقات الانسانية والتفاصيل اليومية، تأتي في الحدود المتأملة في الحياة، في الماضي والحاضر اكثر منها متفلسفة. مجموعة ذات إيحاءات مفرطة الحيوية بمغزاها الأخلاقي الابداعي، وفي فهمها لمداراة الحنين والكتابة عنه من دون دراميته المعروفة وتحديداته الكلاسيكية. وعي قصيدة مرسال هو وعي مُعاصر ومفتوح، وتعبيرها الابداعي عن هذا الوعي، معاصرا بدوره ومنفتحا، ومتكّسبا من تنقل الشاعرة في الأماكن، بلغة تلك الأماكن وثقافتها المتنوعة.
قصيدة إيمان مرسال في النحو الرواقي الذي يشوبها، تختزن مع ذلك شعورا بالرهبة من الوحدة، وهي تتحسس مخاوفها في القصيدة عبر الحوارات القصيرة مع الغرباء، ومع أشياء العالم، ومع الحبوب المنومة كغيبوبات تطول او تقصر، وتُعين على برد الوحدة.
تميل إيمان مرسال في "جغرافيا بديلة" وقد شاءته نتاجها الجديد بعد صمت طال لتسع سنوات، الى قصائد مداعبة وساخرة، ونصوص تنسجم مع رؤيتها التأملية والمشاكسة في آن الى الحياة وشخوص تلك الحياة، بحيث لا تأخذهم على محمل الجد تماما، بل الأمكنة والأشخاص عندها، بأشكال حقيقية وأحجام حقيقية من دون كثير مغالاة في العاطفة او في الحنين.
الضعف الإنساني مقابل قوة الكتابة وبساطتها. في قصيدتها الى بيت العائلة المهدوم في القاهرة، لا تستسلم الشاعرة للمعنى الكارثي والفظيع لاختفاء بيت وأم وذكريات وحياة ماضية، بل في قصيدتها تُبدي قدرا لا يستهان به على دمج الكوني بأشياء الحياة الصغيرة، مُعيدة للخيال قوة الوجود في القصيدة، وفي واقع الكتابة الشعرية.
هذا لا يعني أن الشاعرة تحرم قصيدتها من الانفعال، سوى أنها تجنبها عدم الانسحاق بالفظاعة المتأتية من الواقع، مكتفية باللعب بأحجام الخيالات، تصغرها وتكبّرها بقدر رغبتها في القول، ثم تحولها الى وعي كما يقول، اندريه مالرو: "اذا صعب تجاوزها في الواقع أمكن تجاوزها بالخيال، لأن <قوة الخيال> أعظم شأنا من الأمر الواقع".
خيال مرسال مدعوك بالدعابة، وبه تُنفس مراراتها وخيباتها، الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، الموضوعية والذاتية، تقول في إحدى قصائدها تحت عنوان: "د. ليفي". "يقول لي انه لا ينسى المرضى الذين يتعذبون بلغات مختلفة. اقول له إن علاجه لا يحترم وجودا منشطرا في اثنين، وأنه لم يجرب جحيم ان يتفرج على نفسه من كوة في جدار ذاته. لو كان د. ليفي مصريا لأصبح نجما في السينما، لو كنت ما زلت مصرية لوقعت في غرامه. لكنه هاجر من روسيا لأسباب اقتصادية، ومن اسرائيل لأسباب اخلاقية، ومن جنوب افريقيا لأسباب عاطفية، ويبدو أنه يتعذب بلغات مختلفة. في قلب اللغات المختلفة لجرح الشاعرة الذي ينعكس في قصيدتها بوضوح، يطلع عناد صاف قوي ونفّاذ بالحياة، وقوة في مغالبة سوء الفهم الوجودي، هي حصة الشعراء في مواجهة الأمكنة القريبة والبعيدة وتداعيات الغربة فيهما. قصائد إيمان مرسال في "جغرافيا بديلة" ليست في الأمكنة، بل في روح تلك الأمكنة، وفي الطواف من غربة في القاهرة الى غربة في كندا. تعرف مرسال ان ترى الاشياء جيدا، تدخل بها في عمق، وتُدخلها في القصيدة بالعمق الذي تعرف غوره، ويزداد عمقا مع الوقت، ومع التجربة الحياتية، والفنية في علاقتها بالشعر.


عن جغرافيا بديلة - إبراهيم فرغلي



القصيدة تخلد بالقصيدة
إبراهيم فرغلي
النهار اللبنانية
إبراهيم فرغلي
الاربعاء 2 آب 2006


"الذاكرة المهددة بالفناء تعيش أكثر": أتصور أن في إمكان هذه الجملة الشعرية أن تلخص جوهر ديوان "جغرافيا بديلة" للشاعرة المصرية إيمان مرسال الصادر أخيرا عن "دار شرقيات"، والذي أنهت بصدوره فترة من الصمت، أو بالأحرى التوقف عن النشر، دامت نحواً من تسعة أعوام منذ ديوانها "المشي أطول وقت ممكن".


"لماذا جاءت إلى البلاد الجديدة؟ هذه المومياء؛ موضوع الفرجة/ ترقد بزينتها في كتان رمادي: حياة متخيلة في فترينة متحف/ أظن أن التحنيط مسألة ضد الخلود/ لأن الجسد لن يكون أبدا جزءا من وردة/ المومياء لم تختر هجرتها بينما هؤلاء الذين انتظروا طويلا في طوابير السفارات/ وبنوا بيوتا في بلاد أخرى/ يحلمون بالعودة عندما يصبحون جثثا".
بهذه الصورة الشعرية المفارقة تطرح إيمان مرسال سؤالا عن معنى الغربة، وهو سؤال جوهري في هذا الديوان حيث تبدو الشاعرة كأنها معلقة في فراغ بين محاولتين لكتابة الذاكرة؛ الأولى تعيد كتابة ذاكرة المكان القديم، أو الوطن، والثانية تكتب ذاكرة المكان الجديد. وفي الحالين تعبّر عن حالة إنسانية لغريب في المكانين، بلا بكاء على أطلال، أو افتعال صراع مع الموقع الجديد. غريب يبحث ببساطة عن المكان الأكثر إنسانية، وهذا ما تعبّر عنه بصور عديدة على امتداد نصوص الديوان وبينها هذه الصورة: "بالمناسبة، كيف تخرج من سلطة جسد ميت/ كيف تكسر إدمان البروزاك أوعدم احتياج السيكولوجيست إليك/ لم يكن مناسبا أن تسأله، وانتبهت وهو يقول/ "هذه بلاد بلا تاريخ"/ كأن التاريخ مشروط بالآثار".
الذاكرة الماضوية حين تقوم الشاعرة بإعادة كتابتها تخلصها من الشوائب العاطفية والآلام التي كانت تشوش الذاكرة وتحررها إلى آفاق أوسع، بوعي أكبر تستمده من موقعها الجديد، وبفنية تستقي عناصرها من أصالة صوت الشاعرة، ومن التقنيات التي يستلزمها هذا الوعي الجديد على مستويي تخليق الصورة الشعرية وتقشف اللغة.
تتأمل خبرات الصداقة والزمالة والعمل والآمال، وأيضا العاطفة التي تظهر لها أطياف عدة، تتكرر مع عاشق قديم، وتومض في النص بأكثر من طريقة، كأنها استجابة الشاعرة لومض الذاكرة اللحوح، أو تعود إلى صور لبيت العائلة القديم بعدما تعرض للهدم كأنها تعيد بناءه، مرتبطا بصورة الأم التي تبدو مركزا أساسيا في تلك الصورة: "جدار سيهدم بعد دقائق ليصير كومة من تراب/ كأن أحدا لم يسند أبدا ظهره إليه/ هل تحممت أمي قبل النوم أم في الفجر؟/ أية علاقة تجمعنا الآن؟/ أعطيت فساتينها صدقة لأنها لا تناسبني/ ولو تقابلنا الآن فسأبدو مثل أخت كبرى/ أية علاقة ورحمها كان قد دفن معها هناك/ تحت شجرة كافور حيث الموت المبكر قريب من اليد".
ثمة مستوى ثالث للذاكرة في هذا الديوان يتعلق بالذاكرة الشعرية نفسها حيث تبدو مرسال في هذا الديوان أكثر تسامحا مع التقنيات، ومع قاموسها اللغوي، إذ أفسحت لبعض مرادفات اللوعة والميوعة العاطفية أن تتسلل إلى هذا النص مثل "غرام" أو "وصال" أو "ضنا". لكنها تجعل منها في الوقت نفسه موضوعا للسخرية من التشدد القديم حيال السنتمانتالية وفكرة الملهمات بشكل عام، أو تراث استمساك الشاعر العربي بالملهمات.
لا يعني ذلك أن مرسال تراجع مسيرتها الشعرية، إنما العكس، إذ تبدو أكثر نضجا وثقة، وقدرة على تجريب الشعرية بالصورة، أو المفارقة، أو إدخال السرد كتقنية في أكثر من موضع في الديوان، وهذا يبلغ ذروته في قصيدة "حتى لا يتلوث أحد بدماء الواقع". كما أنها تحرر عدسة العين التي كانت تركز على الذات، روحا وجسدا، كسمة أساسية من سمات القصيدة الحديثة والتي كتبتها هي بامتياز في "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" و"المشي أطول وقت ممكن"، وكذلك في ديوانها الأول "اتصافات". فالعدسة الشعرية هنا توسع من نطاق اهتمامها إلى الآخر الذي تجسده نماذج عدة مرسومة من واقع الأفراد والحياة اليومية في الغرب في وصفه المكان الجديد ومحل الأسئلة اللانهائية عن تنافر الشرق والغرب، أو في نماذج من أطياف الشخصيات التي جسدت جزءا من خبراتها في المكان القديم، وتصل إلى حد رسم رؤى لها طابع جماعي أو كوني كما في نص "الدولة".
ثمة متغير آخر هو تطعيم النصوص بمرادفات بالإنكليزية لتعبّر عن موقعها الجديد في مكان تعيش فيه بلغة أخرى، وتضطر لأن تحلم بهذه اللغة (وهذه علامة كانت تنتظرها لتعرف تمكنها من اللغة كما قال لها مهاجر عجوز ذات يوم) لأن ابنيها لا يتحدثان إلا بهذه اللغة، وهذا ما تعبر عنه في قصيدة تحمل اسم الابن مراد الذي يأتي خطابه في القصيدة بالإنكليزية، بينما الأم تردّ باللغة العربية. القصيدة نفسها تحمل مفارقة أخرى تكشف المسافة بين وعي الطفل بالموت وفقا للإجابات الجاهزة المتفق عليها جماعيا، وبين وعي الماركسية القديمة التي لا يقلقها الفناء قدر ما يربكها سؤال عن مآل الصوت، كما تعبّر عن ذلك في قصيدة "قراءة الماضي" حيث تقول: "الروح تصعد إلى السماء/ ويقال إن الجسد فان/ أين يذهب الصوت إذاً؟/ الصوت الذي كان يضيء كلؤلؤة في عتمة/ الصوت المهيمن على حاسة البصر/ الصوت المحيّر، سراب الكافر/ ثقة المؤمن في الجنة/ جناحان مفرودان في اتجاه الجحيم/ لم أراهن أبدا على الروح/ ولست في حرب مع الفناء/ أين يذهب الصوت؟".
مثل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الفنية والفلسفية التي تعتبر سمة أخرى لهذه النصوص مما تطرحه إيمان مرسال في ديوانها هذا، تصنع علامة فارقة في مسيرة نصها الشعري وتؤكد أصالة صوتها الخاص بين مجايليها، وتنفي ما يشيع عن أن قصيدة النثر هي قصيدة واحدة يكتبها شعراء عدة. الصوت الأصيل ينفي كل تلك الثرثرات، وهذا ما فعلته مرسال باقتدار.

عن جغرافيا بديلة - مي التلمساني

مصنع الخرائط
قراءة في ديوان جغرافيا بديلة لإيمان مرسال

May Telmissany
(أكتوبر 2006) - إيلاف


"إن أفضل الطرق للتخلص من الغواية هي الرضوخ لها." هكذا يقول أوسكار وايلد وهو يقصد في المقام الأول غواية العشق التي لم تزل تطارد العاشق حتى تخضعه، فإذا به وقد انساق وراءها  قد تحرر منها إلى الأبد. بين حدي الغواية، بدءاً من وجودها كفكرة تداعب الخيال وحتى تحققها  ثم نهايتها المحتومة، تقع قصائد إيمان مرسال في الديوان الأخير "جغرافيا بديلة" (شرقيات، القاهرة). غواية البدائل التي تفضي إلى الوعى بالتشابهات، غواية الرحلة التي لا تلبث أن تنقلب إلى كابوس: شبكة من العلاقات الممكنة واحتمالات الخلاص تنسجها القصائد بين الشاعرة والعالم كالجسر الذي لا وجود للشاطئين إلا بوجوده. شبكة هشة لا تكاد خطوطها تتضح حتى يصيبها الوهن، مثل بيت العائلة الذي يتهدم ولا تخرج من شقوق جدرانه سوى خصلات من شعر الأم، مبتلة ً بالحنين وذكريات الطفولة. تغزل الشاعرة نسيج الغواية بدأب لا لتحافظ على النسيج بعد اكتماله وإنما لتختبر قدرتها على الغزل وقدرتها أيضاً على النسل. غواية الغرب موضوع يطرح نفسه بقوة ًعلى سطح الديوان لكل من يقرأ ويفسر النصوص من منظور اجتماعي أو سياسي، حيث يبدو ذلك الغرب البعيد الملتبس موضع اتهام جاهز يشمل الآخر بعين التحفز، ويدعو بالضرورة لسلسلة من مشاعر الرفض والتهكم لا يخلو منها الديوان. ولكن إذا أراد القارئ أن يخطو نحو العمق درجة أخرى، سيدرك ربما أن هدف الشاعرة ليس تحديداً مناوشة مشاعر الرفض الساذجة تجاه الغرب ككل ٍ متحقق وجامد، بل هدفها في المقام الأول العبور من جسر لآخر، من هنا لهناك وبالعكس، لا للاستقرار على شاطئ بعينه وإنما لاختبار مدى صلابة الجسور في مواجهة  القلق الوجودي من هواجس الموت وأشباح الفشل. ههنا، تتخذ الغربة/الهجرة شكلاً أكثر فاعلية كتجربة عبور مستمر، لا ثبات فيها ولا سكينة، ولا محل فيها لحسابات المكسب والخسارة، فالأشجار الخضراء يغطيها الجليد والأنهار تتجمد من الوحدة والأورجانيك فوود لا يلغي الاحتياج للمهدئات وجواز السفر يجب أن يختبئ من أعين المحرومين.

حتى تلك المرحلة الأولى من قراءة النصوص، تبدو الأفكار المطروحة والمشاعر المتضمنة متاحة للفهم والتحليل. لكن الشاعرة، بقدر من سذاجة الأطفال واستسلام الأرامل، تطأ أعتاباً جديدة ً لا يصح أن نقصرها باستخدام تعبير مكرور ومسطِح مثل تعبير "غواية الغرب". فالخطوة التي تخطوها خطوة متفردة بذاتها لا ترتبط بدرب سبق أن مشى عليه آخرون، بما في ذلك الكاتبة نفسها، والجسر الذي تعبره بين عوالم متباينة الملامح والقسمات هو جسر يتشكل تحت أقدامها، من خطواتها الوحيدة المستوحشة التي تأبى المشاركة، وكأنما يتهاوى الجسر تحت أقدامها وليس ثمة منقذٍ من السقوط الأخير سوى الاستمرار في الكتابة. يختلف هذا الديوان إذن عن سابقيه، ممر معتم يصلح لتعلم الرقص و المشي أطول وقت ممكن. ثمة تجربة جديدة تعبر عن نفسها بقسوة هنا، فالغواية الأعمق في الديوان هى غواية الوحدانية القاتمة، غواية العزلة التي خبرتها "امرأة تمسح الغبار عن جبل" تتأملها القصيدة بعين تدربت على الفضح  وتبدو مفتونة بها إلى النهاية. إنها تلك الجاذبية الخاصة والملحة التي يشعر بها الكتاب من فصيلة بناة الجسور وصانعي الخرائط: في عزلتهم، تبدو الكتابة معولاً للبناء والهدم، فالجسر الذي تبنيه القصيدة هي وحدها قادرة على هدمه، من قلب اليأس ذاته، من هاجس "الأصالة والأنانية" الذي يخايل الشاعرة، من عمق الخيال "الملوث بدماء الواقع". تلك الجغرافيا البديلة التي يطرحها الديوان هي جغرافيا الخطوة المنفردة الوحيدة على الجسر، التي تبدو ظاهرياً متناقضة مع فعل الهجرة كتوق للخلاص أو لاكتشاف المجهول، لكنها متسقة مع تناقضها، تتمسك بوحدانيتها وتحلم بالخروج من "سلطة جسد ميت" . ليس جدلاً هيجيلياً بين طرفين نقيضين، الحياة/الكتابة، وليس بحثاً أفلاطونياً هدفه وحدة الأنا والوجود، بل اعترافاً يخالطه الشك المرعب بأن الحياة ، هنا وهناك، موجودة لتراقب من بعيد. هكذا تبدو الكتابة (غواية صنع الخرائط) وكأنها نشأت من مناطق الأمل المفقود،أو من واقع خبرة طويلة في العطش.  

في الديوان على عمومه ثمة انسحاب للداخل تنشأ عنه متعة خفية ماكرة، ترتبط أيضاً بفكرة الوحدة كشكل من أشكال مكر الانسان بأخيه الانسان. أقصد الانسحاب مثلاً لمنطقة الذاكرة (عبر ذكريات الطفولة والحب والموت) أوالانسحاب لمنطقة الصورة وما تستدعيه من أفعال التوالد والتلصص والتكرار والتسلسل مثل صورة الشاعرة تتأمل امرأة أخرى تتأمل صورة جبل، أو صورة الشاعرة  تتلصص علي رجل سمين يتلصص على العالم من خلال الشاشة الصغيرة. تبرز هنا أشكال أخرى للغواية: الصورة التي نعرفها والتي نصنعها بذاكرة أعيننا تولد صوراً جديدة حاضرة و صوراً قديمة تتجدد بتجدد الوعي والتفسير. الذاكرة موصل جيد للحزن، وسيط الشاعرة بين العالم وصورة العالم، بين المكان هنا والفضاء هناك، بين الحب الذي مات بموت الروائي الشاب والغرام الذي يحيا في الاحتمال، وفي قصائد الملهمات. غواية إعادة تشكيل الذاكرة
تنفتح أيضاً على أصل الصوت ومستقره بعد فناء الجسد (الصوت، سراب الكافر) وتقدم الصور والأصوات بوصفها  وسائط  حياة. عندما ينتفي الوسيط ينتفي طرفا الوجود المؤقت وتصمت القصيدة أو تبحث لنفسها عن متنفس جديد، عن طاقة أخرى لممارسة الحزن. تلك الذاكرة التي تشبه "جسر الشيفون" ،ليست بديلاً للواقع بل تتوازى معه وتحيا من أجل ذاتها وأحياناً من أجل الشعر. يقول الفارابي ما معناه إن الإنسان ينشد السعادة لا لغرضٍ خارجي تتحقق السعادة بتحققه، وإنما ينشدها من أجل ذاتها. الصورة الذهنية والبصرية مصدر غواية منشودة لذاتها، غواية لا تسعى الكاتبة بالضرورة للتخلص منها بممارستها على العكس من غواية الحب أو وهم الغرام الذي بلله المغنون بلعابهم. الصورة، مثلها مثل أيقونة كليوبترا المشنوقة في عنق الكاتبة، هي رمز لحياتها القادمة (في الغربة وفي الغرب البديل) ووسيط لا غنى عنه لحياتها الباطنية (في بلد الشعر والوحدة). الصورة مشنوقة بدلال (لو شئنا التعبير) في عنق الشاعرة، مثل المومياء موضوع الفرجة التي يبقى لها شرف أنها "لم تختر هجرتها"، وكأن المومياء هي نفسها  صورة الشاعر (الرومانسي؟) في شبابه الأبدي. 

ذلك الواقع الضبابي الذي تقف حياله الذات معذبة حيناً مدعيةً فهمه وتجاوزه حيناً آخر هو واقع الاغتراب بالمعنى الواسع للكلمة، من حيث هو حال وسيطة بين حالين. وكأن الشاعرة قد اختارت لنفسها المطهر عوضاً عن الفردوس الذي منه تخرج راضية مرضية، وعوضاً عن الجحيم الذي يقع في هوته المهاجرون الفاشلون والشعراء والملهمات والأستاذ الذي انقطعت صلته بالعالم والطبيب الذي وبائع الخرائط الذي هرب من الحرب فإذا بها تلاحقه. كتابة تقف عند حدود المطهر وكأنما هي في ورطة، لا قدرة لها على احتمال العذاب ولا رغبة لديها في الاستسلام للرضا المخزي، لا فرق في ذلك بين كابوس الوطن هناك وكابوس الهجرة هنا.

من حسن حظ الشعر، هناك دائماً  وسطاء يمدون بين الشاعرة وبين العالم خطوط المحبة: اللغة الأم مثلاً تقوم مقام الوسيط القادر على أن يمنحها شعوراً بالامتلاء الكامل (لأن حبلى هي الكلمة التي تجعلك ممتلئة بنفسك/ أنتِ حبلى إذن). بينما التورط في سياق لغة أجنبية يعادل التورط  في وهم التواصل والاستقرار: هي لغة تقف حائلاً دونها ودون الآخرين، قد تسمح بأن يتعذب الطبيب، أويدرب الغرباء الفشلة عضلات أفواههم للتخلص من اللكنة،أو تنغرس كنصل في قلب المهاجرين فيموت الروائي الشاب وهو يعرف "صعوبة الحياة عندما يحاول وضعها في لغة أجنبية". لكن الشعر يعي رموزه اللغوية جيداً ففيما عدا الحكايات التي يتقابل عند حدودها سوبرمان وأمنا الغولة، من الصعب أن تلتقي في متن القصيدة لغتان إلا إذا سمح سياق الحوار بذلك، وهو ما يجعل الجمل القليلة الناتئة باللغة الإنجليزية موضع استغراب (من الغربة أيضاً) مناسباً تماماً لجوهر القصائد وغايتها. الكتابة بلغة الأم قادرة على تقديم بدائل للحزن، أو لرفع الأذي عن المعذبين، قادرة على اقتراح بدائل للفشل و الاشتياق الممض لأرض هناك، يعود إليها المهاجرون في توابيتهم. الكتابة تجعل الحياة هنا وهناك موجودة بالقوة، لكي تراقـَب من بعيد، لكنها على الأقل حياة موجودة، بوهم الكتابة.

تسقط عن قصائد إيمان مرسال شبهة الغنائية السهلة التي تلاحق أدب الغربة، حيث تضع الشاعرة قناع القسوة والتهكم وكأنما تنحني لتلتقط من سلة المهملات "فكرة تبرق كلؤلؤة"، فكرة انفرادها بشعور الوحدة والنقصان، هي أيضاً  فكرة التوازي الممكن بين عوالم وأمكنة وشخوص تبدو ظاهرياً مختلفة متنافرة يجمع بينها أنها مؤشرات غياب ونقص. هكذا يتوقف فعل الشكوى من الغربة عند حد الشكوى والحنين للمكان الغائب، الوطن الذي لا تسميه إلا بكلمة هناك، الشكوى دون توقع للخلاص ودون رغبة في التغيير. إذ تدرك الكاتبة أن لا سبـيل للاكتمال، لا سبـيل لفهم الواقع الخارجي (بما في ذلك الهجرة، الدولة، الحرب، إلخ) إلا باعتباره واقعاً يشوبه الخلل والنقص، يصلح للتأمل من موقع المتفرج في شرفة أو من موقع السائر في مدينة غريبة لا تعرفه (باريس، بوسطن، نيويورك). الواقع أيضاً عندما يكون مصدر حزن لا سبيل لزحزحته،  يصلح لأن تلعب معه الشاعرة، بنفس الصوت المتهكم من ذاته، لعبة الادعاء والعناد الطفولي (قررت أن تظل هكذا حتى يعود من تجربة الغرب / مدعية ً النوم ... عاريةً ... وتحت ملاءة شفافة). هذا الجسد العاري فعلياً بعد لحظة الحب وقبـيل لحظة الوداع، العاري مجازاً في هيئة مومياء جميلة موضوع الفرجة، يقدم نفسه كأيقونة مقلوبة للغواية ينفتح على تأويلات كثيرة ليس من بينها اكتمال الجسد وتحققه في فعل الحب، ولا خلوده باعتباره  مؤشر على التاريخ المجيد في فعل التحنيط، بل بوصف هذا الجسد موضوعاً للتأمل ولابتكار حياة متخيلة حياة "مرْضِّية وميتة" ليس فيها موقع  للتمرد ولا للتحايل على الفناء.

الجسد مكان، فيه وبه تتحدد الأمكنة، الجسد هنا لأنه قريب وخاص، يختلف عن الفضاء بمعناه الواسع، هناك. استحضار الأمكنة عبر صور الجسد لعبة تحبها إيمان مرسال منذ قصائد "ممر معتم" وتزاولها بمهارة في "جغرافيا بديلة"،  إذ لا معنى لتجربة الغرب بوصفه فضاءً عاماً (مع التهكم بالطبع من تلك التسمية) إلا لأنها مضمرة في مشهد حب ووداع، ولا تتخذ الهجرة بعداً  درامياً إلا من منظور دكان الخرائط (فالخريطة جسد الأرض) أو من خلال نزهة في  شارع في مانهاتن، أو أثناء لقاء في الجامعة يوحي بإمكانات الخيانة (ليس تجاه الأحياء وإنما تجاه الموتى، ومن هنا جمال الصورة وتأثيرها)، تماماً مثلما يلخص  جسد امرأة ترقد تحت البيانو رفاهية حي من أحياء القاهرة، أو كما يصمد جسد "تحت مشارط تمسكها قفازات" أمام تهديد الذاكرة، لأن "الذاكرة المهددة بالفناء تعيش أكثر". الجسد هو المطهر، هو مكان الوحدة الأصيل، هو موطن الهجرة الدائم من مصحة طبيب نفسي إلى مصحة طبيب نفسي آخر، هو جسد القطة، تستدعيه الشاعرة من العالم الآخر بدعوى الشعر، جسد يتفرج. من هذا وذاك، تتشكل غواية السفر والرحلة، من لحظة امتطاء الجسد مكاناً للحظة تحوله إلى مومياء لن تكون أبدأً جزءاً من وردة، غواية لا سبيل للتخلص من ندائها إلا بتلبيته، تتجدد بتجدد الرغبة، "ولا شىء يكفي".